| بيروت- من جوني طانيوس |
يتميز لبنان بالعديد من المظاهر الحضارية والتراثية، تلك التي يقصدها السائحون، في رحلاتهم المنظمة إليه، هذه المظاهر موجودة منذ سنوات طويلة مضت، وتشير إلى المكانة التاريخية للبنان عبر عصور طويلة مضت.
ورغم ان لبنان عرف من خلال تاريخه الحديث، والذي تبدو فيه الثقافة والفن أكثر حضورا، بالاضافة إلى الأحداث التاريخية المتعاقبة، تلك التي مازال لبنان يعيش تحت وطأتها.
وبعيدا عن الأحداث السياسية سنأخذ القارئ الكريم في رحلة تاريخية عبر آثار ومشاهد وأبنية ومغارات لبنان كي يتعرف على الوجه التاريخي الاخر من هذا البلد، وذلك عبر فصول «عجائب لبنان السبع».
صيدا عاصمة الجنوب وثالث المدن اللبنانية، غدت مركزاً عمرانياً وتجارياً نشطاً، ولا تزال تحتفظ بالكثير من خصائص المدن الساحليّة التقليدية. هي مدينة مفتوحة على البحر من خلال مرفأ يحتل المرتبة الثالثة بين مرافئ لبنان، وتشرف عليها قلعة تاريخية تعود إلى القرون الوسطى، فيما تحيط بها مزروعاتها وبساتينها المغروسة موزاً وحمضيات. أما أحياؤها القديمة، فلا تزال تعبق بأريج القرون الوسطى، فيما تنتشر على جوانب طرقها الرئيسية المحالّ الحديثة التي تتكدس فيها كل أنواع البضائع والحلويات.
تقع صيدا على بعد 48 كيلومتراً إلى الجنوب من بيروت وتعتبر من أعرق مدن الساحل اللبناني. بيد أن تاريخها القديم مازال يكتنفه الغموض بسبب قلة أعمال التنقيب الأثرية التي تناولتها من جهة، وبسبب الهدر الذي تعرّض له تراثها من جهة ثانية، لا سيما في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين على يد هواة الكنوز والأشياء الأثرية، الأمر الذي يفسر وجود عدد لا بأس به من الروائع الصيدونية في المتاحف الأجنبية والمجموعات الخاصة.
وعلى الرغم من أن تراب صيدا ما زال يحتضن الشواهد الكثيرة على ماضيها المشرق، فإن توسّع المدينة العمراني الحالي يهدّد بإبادة هذه البقايا المطمورة.
القلعة البحرية معلم أساسي
يعود تاريخ بناء هذه القلعة إلى القرن الثالث عشر م. فعلى إحدى الجُزر المواجهة للمرفأ الشمالي، أقام الصليبيون قلعة صغيرة تتصل بالشاطئ بواسطة جسر حجري، نصفه ثابت ونصفه الآخر متحرّك، بحيث انه كان بإمكانهم رفعه لعزل القلعة عن البرّ. ولم يبق من آثار الجسر القديم إلا الدعامة الشمالية المدبّبة، وهي الأقرب إلى القلعة. أما الدعامتان المدببتان الأخريان، فقد أعيد بناؤهما على الطراز عينه في أيام الانتداب الفرنسي على لبنان، بعد أن دمرتهما عاصفة هوجاء في العام 1936 . وإلى فترة الانتداب عينها، يعود بناء الدعائم الأخرى القريبة من الشاطئ. أما القلعة فقد شُيدت على مراحل بين العامين 1227 و1291 تاريخ سقوط صيدا في يد المماليك، واستُعملت في بنائها حجارة وعناصر بنائية أخرى تم اقتلاعها من أبنية تعود إلى فترات سبقت العصر الصليبي. وتظهر حالة القلعة الحاضرة الإضافات والترميمات التي طرأت عليها في عصر المماليك، ولاسيما منها البرج الغربي. أما المسجد الصغير الذي يقع على مقربة من بقايا كنيسة القلعة الصليبية، فيعود إلى العهد العثماني، وقد أقيم بُعيد العام 1840 وهي السنة التي تعرضت فيها القلعة للقصف من ق.بل البحرية البريطانية.
معالم صيداوية أخرى
تتميز صيدا بـ «الاستراحة»، وهي منشأة سياحية تقع على شاطئ البحر بمواجهة القلعة البحرية وتديرها وزارة السياحة. وقد كانت في الأصل دارة لا تزال تحتفظ بعقودها القديمة. وتفتح هذه «الاستراحة» أبوابها للزائرين من الظهر الى الساعة الرابعة عصراً، ومن الساعة السادسة مساءً الى منتصف الليل، وتقدم أشهى المأكولات والمشروبات المبرّدة.
أما «الأسواق» فتحتل جزءاً أساسياً من إرث صيدا السياحي. تقع هذه الأسواق داخل المدينة القديمة، في الحوز القائم بين قلعة البحر من جهة أخرى. وما زالت تحتفظ بأزقتها وعقودها وحرفها الموروثة والمتوارثة منذ القرون الوسطى.
«خان الافرنج» هو واحد من عدّة خانات أقامها الأمير فخر الدين المعني الثاني في بدايات القرن السابع عشر لاستقبال التجّار والبضائع. ويعتمد تصميمه التخطيط العام لمثل هذا النوع من المنشآت. فهو يتألف من فناء داخلي مستطيل يتوسطه حوض مياه، ويحيط به طابقان، الأرضي للبضائع والدواب والعلوي للنزلاء. وقد كان هذا الخان مركز النشاط التجاري في صيدا حتى القرن التاسع عشر، ثم تحوّل مقراً لقنصل فرنسا في المدينة، ومن بعد إلى مقر للآباء الفرنسيسكان، فإلى ميتم للبنات تديره جمعية راهبات «مار يوسف الظهور». أما اليوم فقد أضحى بعد ترميمه مقراً للمركز الثقافي الفرنسي في عاصمة لبنان الجنوبي.
يقوم الجامع العمري الكبير قرب الشاطئ إلى الجنوب الغربي من الأسواق القديمة. ويتألف من بُنية مستطيلة ذات أربعة مجازات، وتدعمها من الخارج دعامات متينة. وإذا كان من المتعارف عليه تقليدياً أن البناء كان في ما مضى كنيسة تم تحويلها في أيام المماليك جامعاً، فإن واقع البناء العمراني يدلّ على أنه كان قاعة من قاعات بيمارستان القديس يوحنا الذي بناه فرسان الاسبتاريّة في غضون القرن الثالث عشر. أما حالته الحاضرة فهي مزيج من البُنى الصليبية والمملوكية، إضافة إلى التصليحات التي طرأت عليه بُعيد العام 1820 على أثر الدمار الذي ألحقته به عاصفة هوجاء. ويظهر الجزء الشمالي الذي يحتوي حوض الوضوء بعض العناصر البنائية القديمة التي استُعملت فيه.
وفي صيدا أيضاً قلعة البرّ التي يُطلق عليها أيضاً اسم «قلعة القديس لويس»، وهو «لويس التاسع» ملك الفرنجة الذي قاد الحملة الصليبية السابعة (1248-1254)، وأمر بترميم عدد كبير من القلاع وتحصينها، ومن بينها، قلعة صيدا. وتحتل هذه القلعة قمّة التل القديم الذي يُشرف على المدينة من ناحيتها الجنوبية ويختزن في جوفه بقايا مراحل تاريخها المتعاقبة. وقد أقيمت القلعة في هذا الموقع على أنقاض قلعة أخرى أقدم عهد تعود إلى العصر الفاطمي، وتُنسب إلى الخليفة المعزّ (952-975). والقلعة اليوم خربة، ولم يبق فيها الكثير من البناء الصليبي، بسبب أعمال الترميم التي طرأت عليها في الفترات اللاحقة والتي كانت تستعمل فيها الحجارة الصغيرة الحجم والرديئة القطع. ويبدو أن الجزء الأكبر من هذه الترميمات يعود إلى أيام فخر الدين المعني الثاني، في الربع الأول من القرن السابع عشر. أما مخطط القلعة، فيُشبه صورة القوس، وفي وسط انحناءة هذا القوس يقوم البرج الكبير. وتنتشر على سفوح التل الأثري أعمدة تعود إلى العصر الروماني.
ومن المعالم أيضاً تلة المُرّيق، التي تقع إلى الجنوب من القلعة البرّية، وهي عبارة عن مرتفع اصطناعي يصل طوله إلى نحو 100 متر وارتفاعه إلى نحو 50 متراً، وقد تكون من جراء تراكم بقايا أصداف المُرّيق، وهو نوع من المحار كان يُستخرج منه الصباغ الأرجواني في العصر الفينيقي. ومن خلال العثور على بعض بقايا الفسيفساء على قمّتها يبدو أن التلة تحولت في العصر الروماني، منطقة سكنيّة، وتغطي أنحاءها اليوم المساكن والمدافن.
كان لصيدا في ما مضى مرفآن، أحدهما ينفتح باتجاه الجنوب، وقد عُرف لهذا السبب بالمرفأ المصري، وكان يقع في مواجهة قلعة البرّ وتلّة المُرّيق، وهو اليوم مطمور تحت الرمال. أما المرفأ الشمالي، الذي ما زال بعضه يُستعمل حتى اليوم، فقد عمد فخر الدين إلى تعطيله قبيل أسره على يد السلطات العثمانية سنة 1633 لمنع أسطولها من الدخول إليه.
وإلى الجنوب من صيدا، في منطقة الدكرمان، تمّ اكتشاف عدد من النواويس والمتاع والرُقم والمنحوتات التي تعود إلى العصر الروماني، كما تمّ اكتشاف مستوطنة من عصر الحجر والنحاس التي تعود إلى الألف الرابع ق.م. والتي تمتاز بأكواخها البيضاويّة الشكل المبنية من دبش وطين.
رحلة تاريخية
كانت المستوطنة الصيدونية القديمة تقوم على رأس صخري تقابله جزيرة صغيرة. فما أن تم ردم المضيق الذي يفصل بينهما حتى تسنّى للصيدونيين إقامة مرفأين على جانبي البرزخ، أحدهما ينفتح إلى الجنوب، فعرف بالتالي بالمرفأ المصري، والآخر إلى الشمال، ما زال موقعه يُستعمل حتى اليوم. إن أقدم الشواهد على التوطن في بقعة صيدا يعود إلى عصر الحجر والنحاس ، في الألف الرابع ق.م. وقد عُثر على هذه الشواهد في موقع «قلعة المعز»، المعروفة أيضاً بقلعة البر، كما عُثر على بعضها الآخر في موقع «الدكرمان»، على بُعد نحو كيلومتر واحد إلى الجنوب من صيدا.
غير أن النصوص لم تتحدث عن صيدا إلا بدءاً من القرن الرابع عشر ق.م. عندما ورد ذكرها في رسائل «تل العمارنة»، وهي مجموعة المراسلات الديبلوماسية التي كان ملوك المدن الكنعانية ومجالس شيوخها يبعثون بها إلى الفرعون لعرض واقع حالهم عليه. ويتبين لنا من خلال عدد من الإشارات التاريخية أن أقتصاد صيدا، لا سيّما علاقاتها التجارية مع مصر، قد بقي على ازدهاره على الرغم من الجزية التي كان على أهلها دفعها للبلاط الاشوري، كما تفيدنا بذلك النصوص الاشورية. وقد بلغت تجارة صيدا في غضون الألف الأول ق.م. درجة متميزة من الازدهار والانتشار، الأمر الذي جعل المدينة تحتل مركزاً مرموقاً بين المدن الفينيقية، بحيث أن الإغريق، في تلك الأيام، كانوا يطلقون اسم «صيدونيين» على جميع سكان فينيقيا. ولعبت صيدا دورا بارزاً في أيام الدولة الفارسية (539-332 ق.م)، لا سيما وأنها كانت تمّد الفرس، الطامحين إلى فرض سيادتهم على حوض المتوسّط الشرقي على حساب المصريّين والإغريق، بالمراكب والملاحين. فما كان من الفرس إلا أن ردّوا الجميل إلى صيدا، فأقاموا فيها قصراً على نمط القصور الفارسيّة كما أنشأوا فيها محميّة طبيعية ذاع صيتها، كانت تعجّ بالحيوانات الغريبة. وفي أثناء تلك الحقبة المشرقة من تاريخها، قام ملوكها ببناء معبد «اشمون»، اله صيدا الأعظم، على بعد نحو ثلاثة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من المدينة، حيث ما تزال آثاره باقية حتى اليوم.
وعلى غرار صور، جارتها الجنوبية، اشتهرت صيدا بصناعة الزجاج والصباغ الأرجواني، وقد كان صنّاعها يستخرجونه من المُرَّيق، وهو نوع من المحار كان يعيش عند الشاطئ. وما زالت صيدا تحتفظ حتى اليوم بأثر جليل ينبئ عن أهمية صناعة الأرجوان الذي رفع أمجاد الصيدونيّين، وهو عبارة عن تلة اصطناعية تقع عند سفح تل «قلعة المعزّ» الجنوبي وتتألف من بقايا المحار الأرجواني وكسر.ه.
بلغت صيدا في تلك الأيام رقيّاً تسبب لها بالمصائب، فعلى أثر ثورة ضد الفرس، نجم عنها تدمير قصر الحاكم الفارسي، حصر الملك «ارتحششتا الثالث» المدينة عام 351 ق.م. ثم أحرقها، فهلك حوالي أربعين ألفاً من أهلها. وخرجت صيدا من تلك المحنة وقد اعتراها الوهن، فما أن جاءها «الإسكندر الكبير» عام 333 ق.م. حتى فتحت له أبوابها
وفي غضون العصر المتأغرق والعصر الروماني، حظيت «صيدا المقدسة» بشكل من أشكال الحكم الذاتي، فكانت تسكّ عملتها، ثم تحوّلت في بداية القرن الثالث للميلاد إلى مستعمرة رومانية يتمتع أهلها بحقوق المواطنية الرومانية. وفي تلك الحقبة استعادت المدينة نموها الاقتصادي وحيويتها التجارية وازدانت بالمباني والعمائر التي لم يبق منها أثار ظاهرة. وفي عام 551 ب.م.، تعرّضت كسائر المدن الساحلية لأهوال الزلزال العنيف الذي ضرب المنطقة في تلك السنة، بيد أن الأضرار التي لحقت بها لم تكن توازي ما تعّرضت له بيروت من جرّاء الزلزال عينه، بحيث تمكنت من حضن مدرسة الحقوق الشهيرة التي لجأت إليها.
وعلى أثر الفتح الإسلامي، دخلت صيدا في كنف الدولة الإسلامية العام 636 وبقيت على حالها، مدينة صغير مزدهرة، حتى سقوطها في أيدي الصليبيين الذين ملكوها بين العامين 1110 و1291 فكانت في أيامهم إحدى أهم بارونيّات «مملكة القدس اللاتينية».
وفي أيام المماليك، ومن بعدهم في أيام العثمانيين في أوائل القرن السادس عشر، استعادت صيدا مكانتها وأهميتها، لا سيما في أوائل القرن السابع عشر، في ظل حكم الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572-1635) الذي جعلها عاصمة له في العام 1594 فرمم أسوارها وأقام فيها قصراً وحمّامات وخانات، وشجع فيها النشاط الاقتصادي وجعل منها محطة تجاريّة مهمة بين أوروبا وبلاد الشام.
الحفريات الأثرية
شهدت صيدا في غضون القرن التاسع عشر حركة اكتشافات أثرية على درجة عالية من الأهمية. ففي العام 1855 عُثر في مغارة «ابلون»، إلى الجنوب الشرقي من المدينة، على ناووس الملك «اشمون عزر» الموجود حالياً في متحف اللوفر في باريس. وبد مضي بضع سنوات، في العام 1860-1861 أجرى البحاثة الفرنسي إرنست رينان أولى حفرياته المنهجية وتقصياته الأثرية في نطاق المدينة وفي جوارها. وفي العام 1887 قام مدير المتحف السلطاني في اسطنبول، حمدي بك، بإجراء حفريات في منطقة المقابر الملكيّة، حيث عثر على ناووس الملك «تبنيت» وعلى أربعة نواويس أخرى من الرخام، تُعتبر اليوم من روائع متحف اسطنبول. وبين العامين 1900 و 1904 ثم إجراء الاسبارات الأولى في موقع «اشمون»، حيث عُثر على مجموعة من الرُقم الفينيقية. وبين عامي 1914و1939 قام عدد من الأثريين الفرنسيين، ومن أبرزهم جورج كونتينو وموريس دينان بإجراء حفريات في صيدا عينها وفي جوارها. وغداة الاستقلال أخذت المديرية العامة للآثار على عاتقها متابعة مهمّة إزالة الغبار عن آثار صيدون.
شموخ التراث (تصوير جوزف نخلة)
جمال في الشكل