رغم ما نسجت من توقعات توقعتها اثر المعلومات الكثيرة التي جمعتها قبيل رحلتي الى مالطا الا ان الواقع وخوض التجربة كان له اثرا مغايرا.
من السماء وقبيل هبوط الطائرة بدت مالطا شاحبة صفراء اللون مما زعزع ايماني بامكانية اعجابي بالبلد كما اعجبت بها حين قرات عنها .أما على الارض فقد استقبلنا مطارها الصغير حيث بدا اننا المسافرون الوحيدون القادمين اليها في حين تركنا المطار في بلدنا يعج بحركة لم اشهد لها مثيلا بسبب الأعياد.
في كل وجهة سياحية أختارها ابحث عن شيئ ينحصر في تعريف اسمه "قاسم مشترك" حتى أشعر بالانتماء للمكان وهكذا استمتع به. ومخطط مالطا مُخزّن في ذاكرتي منذ سنين لا اذكر عددها فقد قرات مرة ان شوارعها تذكر بدمشق القديمة وقرات انها ايضا تذكر بمدينة القدس. شيئا فشيئا بدات اهتم اكثر بهذه الوجهة وما ان علمت ان جزءا كبيرا من اللغة المالطية اصله كلمات عربية حتى ترسخت لدي النية بزيارة هذا البلد. وهكذا وجدت القاسم المشترك :مدنها تشبه مدننا ولغتها تشبه لغتنا!!
فعلى خرائط جوجل مثلا لاحظت ان كل اسم شارع يبدا بكلمة طريق Triq وان بعض مدنها تحمل اسماء عربية ، بل ان اشهر مدينة سياحية بها اسمها "مدينة" MDINAاما باقي مدنها فهي سليمة ومليحة وبوجبة وغيرها مع وجود اسماء اجنبية وكلمتا شطّ ومرسى تحملان نفس المعنى العربي وستفاجئون كما فوجئت بكثرة المفردات العربية العامية بهذه اللغة علما ان الارقام وايام الاسبوع ايضا كلها بالعربية!!
كان اول ما استقبلنا من هذه اللغة في المطار وعلى طابور تختيم جوازات السفر ، لافتة بالانجليزية التي يتقنها معظم الشعب المالطي كون اخر انتداب كان فيها هو الانتداب البريطاني وكانت اللافتة تقول :انتظر خلف الخط الاصفر Wait behind the yellow line وعلى لافتة اخرى باللغة المالطية كانت العبارة تقول "استنى ورا اللنيا الصّفرا" هكذا وبعاميتنا وان كانت باحرف انجليزية ولان اللغة المالطية خليط من لغات عدة كالعربية والانجليزية الا اننا نلاحظ ان معظم الجملة جاء بالعربية.
وعندما اردت شراء مهفة يدوية احترت باسمها الانجليزي ماذا يكون حيث قلت للبائعة ويفرز (امواج) لان المهفة مموجة فاذا بها تسألني مستفهمة "مروحة؟"
ويرجع وجود اللغة العربية في مالطا الى فتحها عام 870 من قبل الاغالبة ولاة العباسيين في تونس وبقاء المسلمين فيها حتى عام 1090 م. واللغة المالطية هي اللغة السامية الوحيدة التي تكتب بأحرف لاتينية.
لم تكن مفاجئات اللغة هي وحدها التي لاحقتنا كيفما توجهنا وانما ايضا المناظر الطبيعية هناك . فنبات الصبر مثلا له بالنسبة لي دلالتان اما لرسم الحدود بين الجيران سابقا او وجود قرية مهجرة . وفي مالطا بالطبع ظهر بدلالة واحدة هي رسم الحدود بين قطع الارض المتجاورة .
الهضاب والتلال وأشجار النخيل والرماّن وقطع الارض الممهدة والمحددة اما بالصبر او "السناسل " المبنية من حجارة الارض تذكرنا بهضاب منطقة مدينة الخليل .الاسوار والمرافيء تذكرنا بمدينة عكا ، والحواري المرصوفة تذكرنا بالقدس ولربما دمشق . بعض الاحياء المتراصة ككتلة صخرية واحدة تذكرني بمدينة اُم الفحم كما تبدو من منزلنا!! ومشاهد صغيرة هنا وهناك كانت تذكرنا بمشاهد مماثلة في ارجاء بلادنا.
لم تكن اللغة وطبيعة البلد هما الشيء الوحيد الذي اخذته مالطا من الشرق بل ان معاملة سكانها وخاصة قطاعها السياحي فيها من الطيبة والترحاب بما يكفي ليشعرك بان هذه صفات شهامة عربية كانت في ايام خلت !! فلم نلحظ اي استغلال سياحي ولا اي عزوف عن خدمة ممكنة فماذا اكثر من ان تقف سائقة الحافلة في منتصف الدوار لتشير لنا باتجاه موقع المسجد حتى نذهب اليه عند نزولنا في المحطة القادمة علما بان احدا لم يعُمل صفير سيارته ولا لوّح للسائقة حاثّا اياها على السير والتقدم .
وعلى ذكر السواقة فيجب ذكر ان مقود السيارات في مالطا يقع على الجهة اليمنى من السيارة وأن مسار السيارة على الشارع هو الايسر ولمن هو غير معتاد على هذا الوضع فان الامر يستدعي مواقف طريفة ومضحكة كان تعتقد ان سائقا ما يبدو تاركا مقود السيارة في حين ان ذلك هو من يجلس جانبه او ان ترى سيارة تسير بلا سائق وذلك لان المقعد الذي بجانب السائق فارغا ليس اكثر.
وعلى ذكر المساجد فان هناك مسجدا ومركزا اسلاميا قيل لنا انه الوحيد في مالطا ولشد ما كانت دهشتي مغلفة باعجاب شديد حين قرات اسم المركز والمسجد : "مريم البتول". فطوبى لهذا التسامح النقي من كل شوائب الطائفية التي تعصف بنا وبأوطاننا. وللاسف لم نجد اي مسؤول في المسجد ليطلعنا على تعداد واحوال الجالية العربية والمسلمة هناك ومعلومتي الوحيدة هي ان السيدة سهى عرفات ارملة القائد ياسر عرفات رحمه الله وابنته زهوة تقيمان هناك وقد تخرجت زهوة من أحدى ثانويات مالطا قبل سنتين او ثلاث.
محملة بكل هذا الإرث الشرقي ذهبت مالطا الجزيرة الواقعة في البحر الابيض المتوسط جنوب جزيرة صقليا وشمال تونس وليبيا ذات ال 316 كم 2 وعدد سكان لا يتجاوز النصف مليون نسمة ذهبت لتلاقي الغرب وتقوى به فمن صاحب الاقوياء قوي بهم ومن صاحب الضعفاء زاد همه هما وبين الشرق والغرب كوّنت نفسها. فتبنّت نظام حكم ديمقراطي اساسه انتخابات برلمانية لمجلس نواب يتكون من 69 عضوا ينتمون لاحزاب مختلفة والحزب الفائز باغلبية هو الذي يشكل الحكومة كما يوجد رئيس دولة فخري ينتخبه اعضاء البرلمان .
وأصبحت عضوا في الاتحاد الاوروبي رغم انها جغرافيا تتبع قارة افريقيا وأصبح اليورو عملتها الرسمية خلفا لليرة المالطية. ودخلت في فضاء اتفاقية الشنغن الاوروبية مما يعني انفتاح اسواق الدول الاعضاء في هذا الاتفاق امام بضائعها.
مالطا لم تضف كثيرا الى الدول التي حالفتها لكنها اصبحت ورشة كبيرة لتصليح السفن الموجودة في عرض البحر نظرا لكثرة موانئها ومراسيها وهي مرسى مثالي ليخوت الاوروبيين نظرا لرخص تكاليف التوقف.
ومالطا عبارة عن ثلاث جزر رئيسية هي مالطا وجوزو وكمينو وعدة جزر صغيرة اخرى . وعاصمتها فاليتا . تدين مالطا بالديانة المسيحية الكاثولكية وهم متدينون جدا وتكثر مجسمات الرموز المسيحية على واجهات البنايات وشرفات المنازل ويوجد بجزيرة جوزو وحدها 365 كنيسة ويفاخر اهل الجزيرة بان عدد كنائسهم بعدد ايام السنة وان لكل يوم كنيسته.
خلال زيارتي ومع كل يوم اضافي اقمته هناك كانت مساحة دهشتي من اوجه الشبه بين مالطا وبلادنا ولغتنا تزداد اتساعا مع نقاط اكثر ايجابية تسجل لصالحها في النظام واحترام القوانين .وعلى عكس اول انطباع حين رايتها من الطائرة شاحبة صفراء اللون كانت في وداعنا كام تودع اطفالها !!!
هذه فقط المقدمة التي نشرتها على صفحتي على الفيس بوك التقرير المصور سيأتي تباعاً وحسب "الفضاوة"