بعد غياب أكثر من أربعة عشر عاما...هذا ما وجدت في إسطنبول في عام 2000 وفي أثناء دراستي الجامعية تلقيت دعوة من قريب وصديق لي لزيارة إسطنبول حيث كان يعمل في القنصلية السعودية هناك، ومع إلحاحه وإغراءاته الكثيرة بتوفير السكن والتنقلات ومرافق تركي... استجبت أنا وصديق ثالث مشترك لزيارته..
لم نكن نعلم عن البلد الا القليل جداً، فلم تكن وجهة سياحية شائعة، بل لم يكن السفر بذاته كما هو في فورته في السنوات الأخيرة... ورغم أن أخي الأكبر قضى شهر العسل هناك قرابة عام 1984 إلا أن البلد كان يلفه الغموض السياحي لي... فلم تنطلق المنتديات السياحية إلا بعد رحلتنا بسنوات.. لذا لم يكن علينا سوى حجز الطيران...أمابقية الترتيبات فتكفل بها مضيفنا...وحسنا فعل
وأذكر حينها أن طلائع جيوش السياحة الخليجية كانت في البدايات الخجولة لغزوها لماليزيا...
زرنا خلال إقامتنا أشهر المعالم جامع السلطان أحمد، السوق المصري، قصرتوبكابي، قصر دولمابهجة، أولوس بارك، البسفور، جزر الأميرات، بورصة، غابات بلغراد،الينابيع الحارة، شارع الاستقلال وميدان تقسيم وغيرها
ورغم جمال البلد من ناحية الطبيعة وعراقة تاريخه العثماني تحديدا ومن قبله السلجوقي مع الآثار الباقية منهم,,, وجودة منتجاته من الجلديات والأقمشة.... واستراتيجية موقعه التي قال عنها نابليون يوما (لو كان العالم دولة واحدة لجعلت اسطنبول عاصمة لها)
إلا أن البلد لم يكن مهيئا سياحيا.. أو لنقل الشعب...فقد كان الشعب منغلقا على ذاته...حبيس لغته وثقافته غير مرحب بالسياح أو غير معتاد على لباقة التعامل معهم...وكان اقتصادهم في حالة سيئة.. فالعملة كانت على وشك الانهيار... وقد انهارت بعد ذلك
انهيار الليرة التركية يسلط الضوء على تأثير مخاطر اتباع نظام سعر صرف وسط بين العائم والثابت في بعض الدول العربية, لا أذكر كم كان سعر الصرف ... لكن كنا نتعامل بأوراق نقدية من فئة مليون وعشرة مليون... ورغم ذلك فلم تكن إسطنبول رخيصة..أو هكذا بدت... ولم تستقر العملة إلا في 2005 بعد حذف ستة أصفار منها.. تزامن وجودنا مع مشاهد أخرى... مثل وفاة طلال مداح... وحضر حزب الفضيلة بقيادة نجم الدين أربكان...رحمه الله... وكان للتغريب الديني والثقافي (الذي بدأه أتاتورك عليه من الله ما يستحق).. فالحجاب كان محظورا في المؤسسات التعليمية.. واضطر المقتدرون إلى ابتعاث بناتهم للدراسة في بلدان أخرى لا تحظر الحجاب مثل ألمانيا عند عودتي ، كنت أجيب من يسألني عن إسطنبول أو يستشيرني بالذهاب لها بثلاثة مآخذ هي عوامل الجذب السياحي بل مقوماته:
1.ضعف الأمن: لم يكن الخروج ليلا آمنا، وقد أعطيت لنا تعليمات بذلك، كما أن بعض المناطق كتقسيم والاستقلال لم نزرها إلا مرة ظهراً وبصحبة مرافق تركي.. وقدلاحظنا في بعض الأسواق الشعبية مضايقات ومحاولات استفزاز لنا كخليجيين من جنسيات عربية...وصل مرة إلى اشتباك بالأيدي.
وأذكر انه قبل زيارتنا تم طعن مشجعين انجليزيين اثنين حتى الموت في ميدان تقسيم من الجمهور التركي ليلة مباراة بين غلطة سراي وليدز يونايتيد الإنجليزي في إسطنبول في الدور قبل النهائي من كأس الاتحاد الأوروبي 99-2000 ....
وبعد عودتنا حصل إطلاق نار في أحد المطاعم قرب الميدان باتجاه سائح خليجي أو عائلة خليجية إن لم تخني الذاكرة .
2.حاجز اللغة: عانينا جدا جدا من اللغة، فالشعب لا يعرف العربية ولا الإنجليزية. حتى في الفنادق الراقية ذات الخمس نجوم التي كنا نقصدها للعب البلياردو...كانت انجليزيتهم ضعيفة للغاية !
لذا كان معنا بالتناوب مرافقون أتراك من جنوب تركيا يجيدون العربية...في كل خطوة نخطوها... من مطعم إلى مزار إلى سوق... بل إن بعض الدبلوماسيين المقيمين هناك كان يستعين بالمرافقين حتى في أبسط الأمور كالذهاب للحلاق.
3.فظاظة الشعب:كان الشعب إلا من رحم الله مجبولاً على الفظاظة... التي قد تصل للعنف من سائقي التاكسي... فلم يعتادوا البشاشة ولم يهذبهم الاختلاط بالأجناس الأخرى... وتحريا للدقة أخص من يحتاج السائح التعامل معه كسائق التاكسي، والبائع، وموظف الأماكن العامة كالمزارات.
بقيت هذه الصور حاضرة في ذهني لأعوام عدة.... نهض خلالها البلد اقتصاديا... وأمنيا...وسياحياً وأهم من هذا كله صحوة الشعب الدينية بين فئة الشباب خصوصاً مع تسلم أردوغان وغول للسلطة.
وأصبح قبلة سياحية للخليج... وحفلت المنتديات بتقارير شتى ... بل إنا لبوابة التركية في الزاد كان الأنشط والأبرز...
ورغم شوقي لمعاودة الزيارة للوقوف على الآثار العثمانية خصوصا بعد استماعي لسلسة التاريخ السياسي للدولة العثمانية... إلا أن إسطنبول لم تكن خياري الأول لسنوات طويلة ... لكن شاءت إرادة الله أن أعاود زيارتها بداية يناير الحالي... مع برودة الطقس غير الملائمة... لكن لظروف العمل أحكاما نافذة
وجدت التاريخ العريق كما هو...والآثار الإسلامية الشامخة على شموخها...فالتاريخ والآثار لا تتغير ولا تزول إن قيض الله لها حاميا... لم يدهشني ذلك... بل دهشت مما وقفت عليه من تطور...ومقومات سياحية:
- الحميمية: فلا تشعر بالاغتراب التاريخي أو الديني...كالتي نراها في أوروبا أو أمريكا...فالأذان يصدح في كل مكان... والمساجد تنتشر في السلطان أحمد أكثر من بعض مدن الخليج.... وترديد السلام ورده كتحية يبعث في النفس الاطمئنان.. وربما بالغت في إلقائه لأحظى بأنس رده.... وكانت شواهد الحضارة الإسلامية تسر عينك وتبهج خاطرك أينما التفت..
- تعزيز الأمن: رغم عدم مشاهدتي لانتشار ملفت لرجال الأمن، إلا أن حالة الأمن سائدة...وحالة التوجس أو القلق لا أظنها ستعتريك بعد حفظ الله والمحافظة على الأذكار اليومية... فتمكنت وزوجتي من ممارسة هوايتنا المفضلة في السفر (المشي) ... بالتجول في تقسيم ليلا أو السير من أورطاكوي إلى بشكتاش بلا أدنى قلق بفضل الله. بل صادف وجودنا هناك هجوم على مركز الشرطة في السلطان أحمد أدى لمقتل شرطي... وعند ذهابنا للصباح هناك لم نجد أي أثر أو احترازات أمنية مشددة...مع عدم إغفال ما يلاحظ في شارع الاستقلال من تطفل من بعض البائعين ((العرب)) بعرض خدماتهم أو المتسولين...لكن هذا ليس عائقاً لمن يتجاهلهم ولا يجاذبهم الحديث.
- الانفتاح اللغوي: على الأقل في المطار والفنادق والأسواق الكبرى والمزارات تجد طلاقة الإنجليزية...أما في الأسواق الشعبية وسيارات الأجرة والمقاهي فتجد ما يؤدي الغرض من عربية مكسرة أو انجليزية ركيكة. فلا حاجة لمرافق أو مترجم.
- المواصلات: توافر خيارات النقل وتعدد المحطات وسهولة الاستخدام أمر لافت... فخلاف دول اوربية أخرى، تكفيك بطاقة إسطنبول لاستخدام وسائل مواصلات كثيرة كالترام والمترو والباصات...بل وحتى دورات المياه العامة... مع سهولة الشحن من الأجهزة أو الأكشاك القريبة وبفاتورة تضمن عدم التلاعب...فضلا عن تعامل جميع سيارات الأجرة بالعداد.
- رقي التعامل: لم أجد ما توقعت...بل كان التعامل راقياً بفضل الله... ومن لم يتعامل معي برقي...فعلى الأقل لم يضايقني. وقد قرأت تحذيرات كثيرة عن سائقي الأجرة (وهم عادة الأسوأ في أي بلد) من خداع بتغيير فئة الورقة النقدية أو التلاعب في الأجرة لكن لم أشهد شيئاً. وأستثني من ذلك مطعم حاجي عبد الله الذي قدم لي فاتورة وعند بدئي في قرأتها سارع بسحبها وتخفيضها قبل اعتراضي عليها كما لو أنه خطأ غير مقصود.. والحقيقة أنه كان محاولة تلاعب...لكن يظل حالة طبيعية تحدث في أي بلد... ولا تخدش اللوحة الجميلة له.. مع ضرورة توخي الحذر في إسطنبول وفي غيرها.
- غياب المشاهد الخادشة: لم ألحظ بفضل الله لا من أهل البلد أو من زواره ما ضايقني وأسرتي في مدن أوروبية أخرى. فالبلد وإن كان علمانيا إلا أن الخلق الإسلامي والحد الأدنى من الاحتشام مازال موجوداً.
- عقلانية الأسعار وربما رخصها: ربما صادف وجودي في إسطنبول عدم وجود نشاط سياحي عربي، وإن كان نشطاً من جنسيات أخرى كاليابان ودول أوربية، والذي ربما ينعكس على انخفاض بعض الأسعار كتذاكر الطيران مثلاً. لكن هناك منتجات أو خدمات أخرى ثابتة كأسعار سيارات الأجرة (فسعر التوصيل من تقسيم إلى مطار أتاتورك كان 60 ليرة وأراه معقولاً جداً) وكذلك أسعار السلع الاستهلاكية والتموينية والمطاعم والمقاهي.
- جودة المنتجات: غالبية ما تقع عليه عينك في إسطنبول هو منتج تركي... وجودتها عالية سيما في الأقمشة وملابس الأطفال (LC Waikiki) والأحذية (FLO مثلا)والأواني المنزلية...واسعارها ممتازة وفي متناول الجميع... لذا أرى إسطنبول وجهة تسوق ملائمة.
أضيف لما سبق قربها زمنيا من دول الخليج (من الرياض إلى إسطنبول ثلاث ساعات ونصف إلى أربع ساعات)، وجمال طبيعتها وتعدد مزاراتها.... وقرب المطبخ التركي من المطبخ العربي وملاءمته للأسر والأطفال... كل هذا يجعل من إسطنبول خيار اًسياحياً مفضلا للجميع بامتياز.... وإن كنت أفتقد أو لا أعلم عن عوامل جذب الأطفال هناك.
هذه مشاهداتي الأسبوع الماضي بعد هذا الغياب الطويل.... وددت فيها الاعتراف بما في هذا البلد من مقومات سياحية،،، وإعطاءه حقه،،،، وإنصافه على الأقل من نفسي... والتي تجاوزت الإنصاف إلى إرهاصات عشق...
وأقول لمن ينشد الكمال في بلد أو يريد سفراً بلا وصب ،،،الزم بيتك وحتى لو لزمته فلن تجد فيه كمالاً ،،، ولن تخلو الدنيا من نكد...
مودتي
عبد الرحمن
12 يناير 2015
(هذه حروف عجلى لمشاهدات قديمة خططتها قبل قليل ...أهديها لمشرفي وأعضاء ورواد بوابة تركيا....شكر الله سعيهم في مساعدة إخوتهم... وإحيائهم للبوابة...كما أهديها للعاشق التركي العذب الذي ملأت قلبي محبته... أبا سلطان)