السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
هذه قصة جميلة تدل على صنعة كاتبها البارع الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى الذي يروي فيها عن أحد أبطال غرناطة الأشاوس , فتعالوا مع بعض نتعرف على هذا البطل الغضنفر :
((لم تشهد شمس الواحد والعشرين من المحرم سنة 897 ه حينما أطلت على غرناطة , تلك المدينة الضاحكة للحياة , الساكنة الى النعيم , السابحة في جو النغم العذب والعطر والأريج , بل رأت مدينة واجمة حيرى , قد أقفرت من الرجال , إلا قبضة من الأبطال رابطت حيال الأسوار , هي بقية ذلك الجيش الذي دانت له أسبانيا كلها , وأظلت ألويته فرنسا وإيطاليا .... قد وقفت تدافع عن آخر حصن للإسلام في هذا القطر الممرع , تذود عن بيوت الله , ومقابر الأجداد ...
ولقد جازت غرناطة أياما سودا عوابس , ورأت مصائب ثقالا متتابعات , ولكنها لم تجد مثل هذه الليلة التي قضتها مسهدة مذعورة , تنظر حواليها فلا تبصر الا مدنا خضعت للعدو فجاس خلالها واستقر فيها , وقد كانت ارض العروبة , وكانت ديار الإسلام , وأمة استذلت واستعبدت , وقد كانت أعز من النسور وأمنع من العقبان , وبقيت هي وحدها تحمي الحمى وتدافع عن الأرض والعرض والدين , وتحمل وحدها الدين , دين الجهاد , الذي كان في اعناق مدن الأندلس كلها والمسلمين أجمعين , فنامت عنه مدن الأندلس , وشغلتها خيالات الامارة وألقابمملكة في غير موضعها ...
وجعلت تنظر غرناطة الى القصر البهي العظيم , وهو آخر هاتيك القصور التي شغل رواؤها الأمراء , وأنستهم سكناها أخلاق صحرائهم الأولى , فكانت مقابر لأمجادهم طفقت تنظر اليه فلا ترى من بناة الحمراء الا الرجل الضعيف , المرأة الملتحية التي اسمها ابو عبد الله الصغير - وأمه الشريفة الأبية , الرجل الذي خلق في جسم امرأة :
عائشة , فحولت وجهها عن القصر الى جهة السرر تسأل : هل عاد موسى ؟
ولقد كان ((موسى)) أمل هذا الشعب واليه مفزعه وعليه بعد الله اعتماده , بداله في ساعة الخطر كما يبدو النجم الهادي للضال الآيس .
لقد طلع فجأة من الظلام . ظلام الدهماء فاذا هو يلمع في لحظة واحدة التماع البدر المنير - وكذلك يقذف هذا الشعب العربي بالابطال كلما حاقت الشدائدوأدلهمت الخطوب- واذا هو امل الأمة , وإذا هو ملء السمع والبصر وملء السهل والجبل , واذا هو بطل المعركة المكفهرة , دعا الى القتال شعبا كل من القتال , فلباه على كلاله هذا الشعب الذ علمه محمد كيف يلبي كلما دعي الى التضحية والجهاد , لباه وتشققت أسماله البالية عن أسود غاب وسباع عرين . ززقف بهؤلاء الأسود في وجه السيل الإسباني الطامي وما زال ثابتا , ولكن أسوده قد سقطوا صرعى في ميادين السرف .
خرج موسى منذ أحدى عشرة ساعه يضرب الضربة الأخيرة ينال بها إحدى الحسنيين , إما النصر وإما الشهادة , ويرد العدو الذي أبقى عليه حلم المسلمين حتى قوي بضعفهم , واشتد بلينهم , وانتزع منهم الأرض قرية قرية , وبلدا بلدا , حتى أقبل يطردهم من آخر منزل لهم في الأندلس من غرناطة .
وعلت غرناطة فترة الجزع , من خوفها على موسى , لقد جعلته قائدها وسلمته الدفة , ليقود السفينة الهائمة على وجهها وسط الأعاصير والزوابع الى الشاطئ الآمن فاذا عجز موسى عن نجاتها لم ينجها احد بعده ... وقد كان موسى آخر خيوط من خيوط الرجاء . وآخر شعاعه من هذه الشمس التس سطعت فملأت الأرض نورا وهدى ثم أدركها المغيب . فإذا انقطع هذا الخيط عم اليأس وانتشر ..... وقد كان موسى آخر مقطع من هذا النشيد الذي ألف مطلعه طارق , ثم توالى على نظمه (شعراء ...) البطولة عبدالرحمن وعبدالرحمن وعبدالرحمن , الغافقي والداخل والناصر , فحمله الأبطال المساعير الى الأقاصي والأداني وتجاوبت بأصدائه سهول فرنسا , وبطاح إيطاليا , ثم ضعف وتخافت ولم يبق منه الا هذا المقطع , فإذا أنقضى جف النشيد على الشفاه وانقطع ومات ....
وقد كان موسى آخر سطر في سفر الحق والبطولة والمجد , ذلك الذي كتبه العرب المسلمون في ثمانمائة سنة , فمحاه الأسبان في سنوات , ولم يبق الا هذا السطر فإذا طمس ذهب السفر وباد .. وقد كان موسى آخر نفس من أنفاس الحياة في الأندلس المسلمة , فإذا وقف هذا النفس الواحد , وسكن هذا اللماء الباقي , صارت الأندلس المسلمة أثرا بعد عين , وصارت ذكرى عزيزة في نفس كل مسلم , وأمانة في عنقه الى يوم القيامة ....
زانطلقت من فوق الأسوار أن (( لقد عاد موسى )), فتقاذفتها الألسن وتناقلتها الآذان , فطارت في ارجاء المدينة وسارت في جوانبهامسير البرق , فبلغت الساحات والدروب , وولجت الدور والمنازل , وأوغلت خلال البيوت والسراديب فلم تلبث أن نفضتها نفضا فألقت بأهليها الى الأزقة والشوارع , فاذا هي ممتلئة بالناس من كل حنس وسن ومنزلة واذا هي تزخر بهذا النهر الأنساني , الذي يجري صوب الأسوار , صخابا جياشا مزبدا , يتحدر ويسرع مجنونا , كأنما تدفعه قوة خفية هائلة احتوتها هذه الكلمات السحرية المكهربة الثلاثة : (( لقد عاد موسى ))
لقد كان يوما من الأيام التي تضئ الطريق لمن يسلك فجاج التاريخ , وتجئ في الليالي كالعبقري في الناس , وتصنع العجائب لتكون معجزة في الزمان , ما شهدت مثله في غرناطة , ولا ابصرت منه (الا قليلا) عين الوجود ! يوم أضاع فيه الناس غريزة المحافظة على الذات في غمار غريزة النوع ونسوا نفوسهم ليذكروا الدين والوطن , وأنبتوا من الحاضر المقيت , ليعيشوا في الماضي الفخم , فماج في سوح غرناطة بحر من الأجسام البشرية حمل أصحابها أرواحهم على أكفهم , وقدموا بين أيديهم دماءهم , التي غضب فيها ميراث ثمانية قرون كلها مجد وعز , ونفوسهم التي عصفت فيها ذكريات ألف معركة منصورة , فمشت في الأعصاب النار واستعد كتاب التاريخ ليكتبوا أعجب موقف للشعب اذا هب .
ووصل موسى , ذلك البطل البدري الذي أخطأ طريقه في الزمان فلم يأت في سنوات الهجرة الأولى , بل جاء في الأواخر من القرن التاسع , ولم يطلع في الحجاز التي كانت تبتدئ تاريخها المجيد , بل في الأندلس التي كانت تختم تاريخها ...
وكانت تعلوه كآبة , فأنصت الشعب واحترم كآبة هذا الرجل الذي لو سبق به الدهر لصنع يرموكا أخرى أو قادسية ثانية , ولكن الله الذي فتح تاريخنا في الأندلس بموسى , قد ختمه الآن بموسى !
ونظر موسى حوله , فإذا حوله شيوخ قد أراق الكرم على شيباتهم بهاءه ونوره , وأطفال كالزهر فتحوا عيونهم على الدنيا فوجدوها غارقة في بركة من الدم , و نسوة تفتحت الأكمام عن زهراتها , فرأت الطرقات من تكن الشمس تراهن صيانة وتعففا, قد برزن يسرن الى المعركة ويزاحمن الرجال , ولم يكن يخشين على جمالهن , فقد غطت عاطفة الجهاد على عاطفة الجنس , فكان كل رجل أخا فيه لكل امرأة فأحنى رأسه , ورأى الناس في عيني البطل دمعة تترقرق , وفتح فمه فحبس الناس أنفاسهم .
فإذا هو يعلن النبأ المهول , نبأ تسليم أبي عبد الله الصغير مفاتيح غرناطة !
نبأ بدأ صغيرا كما تبدو المصائب , فلم يدر الناس لهول المفاجأة ما أثره هذا وما خطره , ولكن القرون الآتيات درت ما أثر هذا النبأ , ولم تفرغ الى اليوم من وصف فواجعه وأهواله .
ونظر موسى فإذا الصرح الذي أنفق في إقامته الدهر الأطول , قد أنهار في دقائق واذا هذه الديار التي سقيت بدم الجدود , ومتزجت برفاتهم , وقامت على أيديهم , يسلمها جبان مأفون للعدو المغير , واذا السادة صاروا خولا , والملوك عبيدا .... وجعل يفكر في هذه الفئة التي حوله , في أكرم زهرات غرناطة وأزكاها , هل يجنبها الموت الحاصد ويردها , الى حيث وجدت الراحة والدعه , أم يخلصها من حياة كلها ذل وألم ويسوقها الى موت شريف ؟
وأنه لفي التفكير وإذا بأطفال غرناطة ينشدون ذلك النشيد الذي لا يعرف من نظمه لهم فيصغي الناس ويستمع الفلك الدائر :
(( لا تبكي يا أماه , إنا ذاهبون إلى الجنة ,
إن أرض غرناطة لن تضيق عن لحد طفل صغير مات في سبيل الله
إن ازهار غرناطة لن تمنع عطرها قبرا لم يمتع صاحبه بعطر الحياة ,
إن ينابيع غرناطة لن تحرم ماءها ثرى لحد ما ارتوى صاحبه من مائها ,
أنت يا ارض غرناطة أمنا الثانية فضمينا الى صدرك الدافئ الذي ضم آباءنا الشهداء ,
لا تبكي يا أماه بل اضحكي واحفظي لعبنا , سيأتي إخوتنا فيلعبون بها .
فذكريهم بأننا تركناها من أجل هذا الوطن ,
سنلتقي يا أماه , إنك لن تؤثري الحياة في ظلال الأسبان على الموت تحت الراية الحجازية .
ولن تضيق عنا ارض غرناطة . ما ضاقت أرضنا بشهيد ))
ولم يعد يطيق موسى أكثر من ذلك , فلكز رأسه , وانطلق الى حيث لا يدري أحد كما جاء من حيث لا يدري أحد .
وكذلك ذهب آخر أبطال الأندلس , لم يخف له قبرا في الأرض , ولا سيرة واضحة في التاريخ , بل مر علينا كأنه حلم بهيج !
رحمة الله على موسى بن ابي الغسان وعلى أولئك الأبطال )) انتهى