المدينة الأولى عالمياً بعدد السياح .. بما يزيد عن 75 مليون سائح سنوياً .. لاعجب في ذلك .. فمن يسير في طرقاتها .. ويجول بين متاحفها وقصورها .. ويرتشف القهوة في مقاهيها .. سيعرف السبب الذي فتن الملايين بها .. أوليست هي التي تحتضن أحد أشهر معالم العالم؟
تاريخها زاخر بالأحداث الدامية .. إنتقلت على مر العصور .. من مدينة موحشة ينهش بجسدها الغزاة .. إلى مدينة ساحرة تأخذ بالألباب وتحتضن الأصحاب ..
ففي فترة من فترات القرن الثالث (قبل الميلاد) .. أستوطنت قبيلة تدعى (باريزي) جزيرة صغيرة موجودة بوسط نهر السين .. وقامت ببناء حصن منيع لحمايتهم من محاولات الإجتياح لجزيرتهم .. ونجحوا بتحقيق ذلك الأمان المنشود .. إلى أن أجتاحتهم جيوش الرومان سنة 85 قبل الميلاد .. وقاموا بتسمية مستعمرتهم الجديدة (لوتيشيا) أي (منطقة المستنقعات) .. كما طردوا سكانها الأصليين (قبيلة باريزي) وأسكنوهم بضفة النهر اليسرى بمنطقة تعرف إلى اليوم بإسم (الحي االلاتيني) .. كما قام الرومان ببناء الشوارع والمباني على طرازهم الروماني العريق .. وحولوها إلى مدينة رومانية تقليدية .. مع عدة جسور توصل الجزيرة بضفتي نهر السين .. ولازالت بعض آثار هذه المدينة الرومانية القديمة موجودة إلى اليوم ..
لم تدم لوتيشيا (باريس الرومان) كثيرا .. إذ أجتاحتهم قبيلة من أواسط أوروبا تدعى (قبيلة الإفرنج) .. وهي أصل الفرنسيين الحاليين .. حيث لو سألت اليوم أحد الباريسيين وقلت له (وش تعوّد؟) .. لجاوبك (إفغونجي) ..
حافظ الإفرنج على أرضهم إلى أن كبرت باريس وأزدهرت على مدى مئات السنين .. وأزدادت جسورها وتعددت طرقاتها حتى أصبحت مركزاً تجارياً مهماً .. مما جعلها هدفاً جذاباً للهيمنة والإستحواذ .. وكان (الفايكنج) و(الإنجليز) يمثلون أكبر الأخطار عليها .. إلى أن تقلّد الملك (فيليب أوغست) الحكم .. حيث كان يملك الكثير من الحنكة والفطنة .. وبنى سوراً دفاعياً كبيراً حول باريس .. بإرتفاع 9 أمتار وسمك مترين ونصف .. (بإمكانك رؤية آثار هذا السور العظيم في بعض شوارع باريس اليوم) .. كما قام الملك ببناء حصن ثاني دفاعي خاص بقصره .. يتبقي منه جزء صغير موجود إلى هذه الأيام بمتحف اللوفر ..
وبسبب هذه الحماية التي أمّنها الملك لباريس .. أزدحمت باريس بالسكان للبحث عن الأمان ..حيث وصل عدد قاطنيها إلى أكثر من 300 ألف شخص ..
توفي الملك فيليب عام 1223 بعد أن حقق للباريسيين أمانهم من الهجمات الخارجية .. وأستمر ذلك الأمان إلى عام 1290 .. حيث حدث مالم يكن بالحسبان!! .. فقد جائهم عدوهم هذه المرة من داخل السور!! .. فقد كان العدو هو ..
الجـفـاف !!
بفترة من القرون الوسطى .. كان نهر السين مصدر الباريسيين الوحيد للمياه .. وذلك على الرغم من تلوثه .. وبحلول سنة 1290 .. جف النهر بفصل الصيف!! .. ولم يعد هناك أي مصدرللمياه!! .. لانظيفة ولاملوّثة!! .. مما يوحي بنهاية باريس!! ..
فما العمل؟
قام بعض الرهبان (وأنقلها هنا كما سمعتها من قناة ديسكفري) .. قاموا بالبحث المضني عن المياة الجوفية .. إلى أن أكتشفوا بعض الينابيع في الأرياف (95 كم شرق باريس) .. حيث يخرج منها الماء الصافي .. فأنشأوا على إثرها شبكة طويلة من القنوات المائية ممتدة تحت الأرض بعمق ستة أمتار .. إلى وسط باريس .. وبذلك تم حل المشكلة بشكل مؤقت .. إلى أن أتى المهندس (لوي دومينيك جيرار) في عام 1815 .. حيث قام بإنشاء محطات ضخ لهذه الينابيع .. والتي لاتزال تعمل إلى اليوم بكل كفاءة .. تخيّل!! 200 سنة والمضخة لاتزال تعمل!! .. أين نحن من هؤلاء؟!
بعيداً عن معضلة المياه .. كان لباريس موعداً مع الثورة .. ثورة الأحياء .. وسمّيت بثورة الأحياء .. لأنها أعقبت ثورة الأموات .. وهي التي سأكتب عنها لاحقاً بإذن الله .. بعنوان (كاتاكومب) ..
قامت الثورة (ثورة الأحياء) في عام 1789 .. حيث عمت الفوضى الدموية بكل مكان .. وأصبحت شوارع باريس في قبضة العصابات العنيفة .. هاجموا سجن الباستيل الشهير .. وحرروا السجناء .. كما قاموا بملاحقة الأرستقراطيين وأتباع الملك .. وسجنوهم وأعدموهم خلال فترة مروّعة تعرف باسم .. حقبة الرعب!! ..
أستمرت تلك الحقبة لما يقارب الخمس عشرة عاماً .. إلى أن توّج نابليون بونابارت نفسه إمبراطوراً على فرنسا في عام 1804 .. وأعاد النظام للمدينة .. كما بنى قوس النصر الشهير تكريماً لإنتصاراته العسكرية ..
وفي عام 1850 .. حيث أختنقت باريس بسكانها البالغ عددهم مليون نسمة .. أتى نابليون الثالث (إبن أخ نابليون الشهير) .. وقام بعمل له أكبر الأثر بتاريخ باريس الحديثة .. حيث رسم خطة جديدة لتغيير شكل باريس بشكل جذري .. وهدفت هذه الخطة لبناء شوارع عريضة .. وتحسين حركة السير .. وإفراغ الأحياء الفقيرة التي عشعش فيها الإضطراب والعنف .. فقام بتوكيل هذه المهمة للمهندس الكبير (يوجين هاوسمان) .. والذي يطلق إسمه على أهم شوارع باريس هذه الأيام ..
قام هاوسمان بشراء بيوت الفقراء .. ونقل قاطنيها إلى ضواحي المدينة .. وأنشأ جادات عريضة ووسّع أخرى .. كجادة الشانزيليزيه .. أشهر جادة في العالم .. وخلال أقل من 30 سنة .. أعاد (هاوسمان) رسم خريطة باريس بشكل جذري .. وربطت جاداته الجديدة كل أقسام المدينة للمرة الأولى .. كما أقام العديد من المتنزهات .. حيث أصبح للباريسيين أماكن عامة يتنزهون بها ولأول مرّة .. كما وسّع (هاوسمان) حدود المدينة .. كي يتشجّع المزيد من الناس للقدوم إلى باريس ..
عانت باريس الكثير من حرب المائة عام الشهيرة مع الإنجليز.. ففي عام 1940 .. أجتاح جنود هتلر النازيين باريس وتنقلوا عبر جادات (هاوسمان) العريضة إلى وسط باريس .. وما أن لبثت فترة إحتلالهم تنتهي بعد أربعة سنوات على يد الجنود الأمريكان .. إلا وتصبح باريس عاصمة فاتنة .. جميلة ومرغوبة ..
تم بناء قطارات الأنفاق (المترو) تحت الأرض .. وقطارات التنقل السريعة (RER) .. والتي توصل العاصمة بالضواحي .. أما فوق سطح الأرض .. فقد أصبحت المدينة شبه متجمدة بالزمن .. حيث لازالت شوارعها ومبانيها كما بناها المهندس (يوجين هاوسمان) .. إلى أن تم بناء برج (تور موغباناس) في وسط أقدم مقاطعات باريس .. وذلك في عام 1972 ..
لكن هذا البرج لم ينل الكثير من الإعجاب .. بسبب الموقع غير المناسب .. والتصميم الباهت .. بالرغم من أنها محاولة شجاعة من باريس لمواكبة القرن العشرين .. وقد أرادوا بناء المزيد ولم يستطيعوا .. لسببين رئيسيين ..
البنية الجيولوجية الضعيفة لأرض باريس .. فمعظم الطبقات الصخرية تحت باريس هشة جداً ولن تتحمل ثقل الأساسات اللازمة لناطحات السحاب ..
والسبب الآخر .. تواجد الآلاف من الخنادق والسراديب تحت باريس والتي حفرت لإستخراج الحجر الرملي المستخدم في بناء الكثير من مباني باريس وجسورها .. ومنها جسر(بون أوف) .. أقدم جسور باريس .. وجسر (سولفيرينو) .. أحدثها .. فأرضها شبّهت بالجبنة السويسرية لكثر الأنفاق والخنادق ..
لهذا السبب وذاك .. أمرت الحكومة بعدم السماح لأي بناء شاهق داخل باريس .. وهذا الشيء واضح ومشاهد اليوم .. وسمحت ببناء المباني الشاهقة خارج نطاق وسط المدينة .. بمنطقة (لاديفانس) الشهيرة ..
كانت هذه نبذة تاريخية مختصرة .. قبل أن أعرج بالبدء في ذكر تفاصيل رحلتي ..
بالجزء الثاني إن شاء الله ..