تمهيد
أحبائي الفاضل سلام الله عليكم و رحمته تعالى و بركاته
"إنه شعب جلف.."
"..الابتسامة تضيع في الطريق إلى محياه.."
"..عند وصولنا للمطار،لاحظنا وجوه مكشرة و عبوسة.."
"..الشعب التركي خشن...غليظ القلب"
هي عينة من الصفات التي التقطتها من بعض التقارير، ترسبت لدي و حملتها معي بتحفظ شديد جدا لأنني سوف أخضعها لمحك التجربة بمختبر زيارتي لبلاد العثمانيين..
إنه من الامنطقي بمكان أن نحكم على مجتمع ما حكما فريدا،نلصق به صفات تجتمع على رأي واحد خاصة و مجتمع يحوي نسيج من الثقافات و الأجناس البشرية..مجتمع يواجه تيارات إنسانية و ثقافية من كل الجهات..
فكرة موضوعي الحالي قد استهلكت كثيرا و سال لاحتوائها حبر وفير ..و لكن فضلت أن نغوص معية بجوانب جد شخصية،حملت بين طياتها كثيرا من المشاعر و تنوعا من الأحاسيس،مواقف حتما تأثرت بها و ربما قد أثرت بأصحابها..
أدعوكم أحبائي الكرام للتفاعل و النقاش المثمر بعيدا كل البعد عن أية حساسيات ضيقة و نزعات قومية..هيا بنا لنرصد سلبيات مجتمع الأتراك قبل ميزاته و حسناته، نفصل جميعا ما لنا و ما علينا كضيوف علي مجتمع جمع سحر و أصالة الشرق ومستقبل و معاصرة الغرب ..و لا حبذا لو نتشارك و ننظر في مواقف قد تركت للأسف بصمة سيئة و أثرا سلبيا في مشاورنا ببلاد السلاطين حتى ربما نقدم عبر و مواعظ للقادمين...إذن ما رأيكم؟؟
إطار هدا الموضوع سيكون متسلسلا..سأتحفكم بزياراتي لبعض أهالي الأتراك بمختلف الدرجات الاجتماعية و بتنوع مداركهم العلمية و تواجدهم الجغرافي..
تعالوا معي إذن لتفاصيل الحلقة الأولى من هذه السلسلة الاجتماعية التفاعلية..تحت عنوان:
زيارة أم تركية مريضة..لحظات صفاء وجداني لن تنسى..
بينما كنت أقضي بعض مآربي الأخيرة بمنطقة بيازيد إذ بهاتفي يرن ودار الحديث الأتي..
* - "السلام عليكم..مرهبا من على الخط؟؟"
* - ببحة تخترقها البهجة و الفرح أجاب: "عليكم السلام.مرهبا أنا جاهد ..كيف الأحوال و كيف الجو ببلدك الكريم؟؟"
* - " يا أهلا بك أخي جاهد الحمد لله ..كل شيء على ما يرام ، كيف أمورك و كيف حال الوالدة العزيزة؟؟"
* - " تسأل عنك كثيرا و هي متعبة شيئا ما و تأسفت كثيرا حيث لم تعد ظروفي في صالحي لنصل حبل المودة..لكن أنت تعلم جيدا معزتك عندنا."
* - " شكرا جزيلا تخجلني بكلامك الطيب أخي العزيز جاهد "
* - " العفو أردت الاطمئنان عليك و افتقدت التواصل معك"
* - "طيب سأخبرك حالا إنني قريب جدا من السوق المسقوف باسط نوبل"
* - "قاطعني باستغراب كبير...كيف؟؟ لا اصدق ما اسمع مفاجأة جد سارة سأآتيك حالا و الوالدة ستسر بهذا الخبر."
* - "لا داعي لإزعاجك من فضلك..أرسل لي العنوان عبر رسالة على الهاتف سأتولى الأمر و أعتمد على نفسي و إن شاء الله."
* - "حاضر أعلم جيدا انك مسافر مغمور,على العموم أنا و الوالدة في انتظارك لا تتأخر."
* - "موعدنا بعد صلاة العصر بمشيئة الرحمن السلام عليكم في أمان الله أخي..."
جاهد أخ تاجر ينتمي لأسرة بسيطة تعرفت عليه من خلال صديق مشترك و ظل التواصل بيننا و تعزز بوسائل الاتصال ألعنكبوتي..عرفت من خلالها أنه يرعى أمه و يتولى عنايتها ..وقد شاهدت في أكثر من فرصة كيف يسهر على خدمتها عن قرب من خلال ما تتيحه لنا هده الوسائط سبحان الله..
عدت إلى فندقي البسيط حتى أتهيأ لهده الزيارة و التي لم تكن منتظرة و غير مسطرة بجدول برنامجي ..أخذت معي بعض المقتنيات البسيطة من الصناعة التقليدية من بلدي و التي عادة ما تصاحبني في أسفاري من باب التهادي و تقديم تذكارات و لو بقيمة متواضعة عساها تربط و تقوي جسر التآخي و المحبة اقتداء بحبيبنا عليه أفضل الصلاة و السلام..
كان مقصدي شارعataturk cadessi لأعرج عن يسار مسجد شهزادة و بلدية اسطنبول الكبرى و أردف مسيرتي نحو شارع macar kardesler و الذي يوجد على مقربة من مسجد الفاتح..
أدان العصر يخرق أفق السماء..طعمه بتركيا خاص جدا..تنتابك حالة و كأنك تتلألأ بالنور وتسيطر عليك درجة من التسامي و كأن الروح تتحلل من الجسد...إنها فرصة لأتوجه إلى الله سبحانه و تعالى بعد صلاة العصر بمسجد الفاتح مبتهلا و مستخيرا رب العزة و الجلال: اللهم إني أستخيرك بعلمك و أستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فانك تقدر و لا اقدر، و تعلم و لا اعلم و أنت علام الغيوب..اللهم إن كنت تعلم أن أمر زيارتي لأخي جهاد خير لي في ديني و معاشي و عاجل أمري و اجله فاقدره لي و يسره لي، ثم بارك لي فيه ، و إن كنت تعلم أن هدا الأمر شر لي في ديني و معاشي و عاقبة أمري فاصرفه عني و اصرفني عنه و اقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به...
اتجهت على اثر ذلك يمين شارع yavuz selim حيث مررت بسوق حي الفاتح و اقتنت بعض الفواكه و على بعد بعض أمتار كان موعدي مع منزل الأخ جاهد..
فتح لي الباب بابتسامة عريضة و هي المرة الأولى التي التقي به و كانت حرارة اللقاء في عناق رسم أسمى تعابير الأخوة و المحبة..
هي امرأة في عقدها الثامن بابتسامة تنبض بمشاعر إنسانية جياشة ومحيا اختزل تاريخ السنين والذكريات و ملامح إيمانية متشحة على هالتها..تقدمت لأقبل رأسها و كانت حالتها الصحية لا تستدعي لأي قلق وقد ذكر لي الأخ جاهد أن زيارتي لهم كان مقدم خير الحمد لله..إنها الوالدة و الرفيقة و الصديقة للأخ جاهد...
و ما هي إلا هنيهات حتى انصرف نجلها ليحضر لنا كوب شاي و ترك لنا المجال واسعا...بإشارات مبهمة و كلام متقطع عرفت أنها تحكي لي ذكرياتها بالحرمين الشريفين..هي دوما تلك الذكريات التي تأجج روابط المحبة و تبصم حياة كل مسلم و تحن إليها كل المشاعر الإنسانية.. وفهمت بعد ذلك أنها تطلب مني أن أناولها مصحف من الحجم الكبير و نظارتها بجانبه..و طلبت مني الجلوس و أسمعتني بعد ذلك حلاوة قراءتها لآيات بينات من الذكر الحكيم..انساب معها فكري و فاضت بتلاوتها أحاسيسي..ولم أتمنى أن أستفيق من صفاء هده اللحظات إلا بعد طلبها أن اسمعها بدوري ما تيسر من القران الكريم..شعرت بيدي ترتعش و دقات قلبي تتصاعد ..فلم أكن متوقع و لا متهيئ لمثل هده الأجواء و التي لم تكن في الحسبان و لا على البال ..فتمنت تأدية دوري على أنسب وجه إلى أن خانتني دموعي و انزلفت بدون استئذان..تنفست وتملكت نفسي وأردت أن أخفي تأثري ..لقد كان كل أملي من ثم أن لا انتهي من هذه المهمة إلى أن سمعت خطوات الابن البار مصحوبة بفنجان شاي مع ألذ سميت وأطيب زيتون اسود من الريف التركي الأصيل..
كان مجرى أطراف الحديث كفيلا أن ينهي مني تلك الشحنات الوجدانية و الأشجان القلبية التي قلما يجود بها الزمن..لاحظت عن كثب تعامل الابن البار بأمه و لم أتوصل أين مجرى الحنان هل يستمد من الابن للأم أم العكس أم هي علاقة بنونية متبادلة حميمة و بديهية...
وكان الدرس البليغ أن صاحب القلب الرفيق مؤهل لبلوغ منازل الصديقين إن هو تعهد قلبه بشيء من المراقبة و الذكر و الديمومة على قراءة كتاب الله، و صاحب القلب المفعم بأحلام الدنيا و مصالحها و مغانمها لا بد و أن تغلفه القسوة و أن يهيمن عليه الران .و بريق ظاهره لا يصلح عندئذ من هذا الباطن شيئا.
سمعت أدان صلاة المغرب و استأذنت من هده الزيارة التي حملت لوعة القلب و الوجدان ...أصر الأخ جاهد على إيصالي من حيث جئت إلا أنني كنت في حاجة ماسة للجلوس مع نفسي على طاولة الاعتراف لأرتب بعضا من أوراقي المبعثرة. كان اعتكافي في مسجد السلطان أحمد بعد أن ودعت الأسرة الكريمة على أمل اللقاء بهم علي بركة و محبة بمشيئة الرحمن.
أثقلت أسئلة ذاكرتي و توجهت إلى الله سبحانه أناجيه و اسأله ..هل ما حصل لي تلك العشية هو إكراما من الرحمن لزيارة مريضة بلاد غريبة أم هي منحة لحلقة ذكر تحفها الملائكة حيث ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتاب الله ، و يتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة : وغشيتهم الرحمة ، و حفتهم الملائكة ، و ذكرهم الله فيمن عنده..أم هو درس تطبيقي لكيفية بر الوالدين أم هي تلك الإشارات و الدلالات جميعها معا...
و في الختام حمدت الله أن جعل من توفيقه دربا لي و رفيقا لم يتخل عني و لو تركني لحيرتي و ضعفي و تخلى عن عنايته بي ووكلني إلى عقلي و نفسي لتبلد مني العقل و لغابت الذاكرة و حينها تذكرت أن الرحمن العلي القدير الملهم و المحرك و الموفق و ازددت يقينا بأنني لوح لا يثبت عليه إلا نقشه سبحانه و عبد لا يتراءى له إلا سلطانه...
وسألته عز وجل ضارعا أن يكرمني و يرحمني فيتغلب طمعي في مغفرته علي خوفي من عقابه يوم يجمع عباده كلهم الأولين منهم و الآخرين على صعيد واحد..ظلت نهاية هذا اليوم التركي مليئة بالأحاسيس الفياضة و الدروس الجياشة..كانت كافية لتجديد العهد مع الله سبحانه و تعالى...
تحياتي أعزائي الكرام و إلى اللقاء مع حلقة ببيت أسرة طبيب بمدينة اسطنبول حيث التبادل الثقافي.. زيارة جد خاصة سنرافقه من بيته لعيادته بضاحية مدينة إزميت تلك المدينة الجريحة و التي سوف أضرب لكم موعدا للتنزه بأرجائها لاحقا فكونوا بالموعد المحدد و لا تتأخروا إن شاء الله ..استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه .
والسلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته..