والآن نبدأ بالجزء الصعب... ويجب أن أشير إلى أن من تطرقنا لهم ليسوا الوحيدين، فهناك المئات من التابعين وتابعيهم ممن حسنت سيرتهم، وكانوا أئمة في أقاليمهم إلا أنني وكما ذكرت في بداية الموضوع سأركز على أبرز الفقهاء والأئمة ممن تركوا أثراً في عصرهم، أو أثراً باقياً إلى يومنا.
وللأمانة يجب أن أذكر أن بروز بعض هؤلاء الفقهاء كان نتيجة للأحداث التي برزت في الثلث الثاني من القرن الهجري الأول وحتى سقوط الخلافة الأموية على يد العباسيين، فهذه الأحداث أسفرت عن ظهور حركات سياسية كالخوارج الذين برووا موقفهم تبريراً دينياً، والشيعة الذين خلطوا محبة آل البيت بالسياسة مع وجود ترسبات أثنية قديمة لدى الأعاجم منهم حول الملكية والمكانة المقدسة للملوك، كما برزت فرق دينية خلطت الفلسفات القديمة للهنود والفرس بالدين، فظهرت الجهمية والقدرية وغيرها، وفي المقابل ظهرت فرق لمواجهة الأفكار الغريبة التي أتت بها تلك الفرق، فبرزت فرق فكرية فلسفية كالمعتزلة والأشاعرة.
هذا المد الهائل من الأفكار الغريبة ومن الحركات الدينية والسياسة والفكرية، أدى لبروز جيل جديد من العلماء، جيل تولى مهمة الدفاع عن مرتكزات العقيدة الإسلامية وحماية الآثار والسنن النبوية، والأجتهاد في أستنباط الأحكام الفقهيه الجديدة لما أستجد في حياة الناس نتيجة التوسع الجغرافي والعمراني والأقتصادي، وظهور أسئلة جديدة لدى الناس تكونت لديهم نتيجة أحتكاكهم مع أصحاب الديانات الأخرى وأطلاعهم على الفلسفات القديمة.
كان علم الفقهاء الذين أطلعنا على سيرهم هو القاعدة التي أرتكز عليها هذا الجيل الجديد من الفقهاء، فنهل جميعهم من مصدر واحد وربطت بينهم علاقة ود وأحترام (على عكس أتباعهم اليوم) تدارسوا معاً وأخذ أحدهم عن الآخر، وتقاطعت دروبهم في مراحل عدة.
محطتنا اليوم مع إمام جليل وعالم فاضل، قاد ثورة هي الأولى من نوعها ضد الحكم الأموي عرفت بثورة القراء والمحدثين، هدفت لنبذ الخلافات بين المسلمين ورفع ظلم الأمويين والعودة لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ثورة دعمها الفقهاء الذين عاصروه أن لم يكن بالخروج معه فبالدعوة له وبدعمه بالمال، شخصية فريدة تأثرت جداً عندما قرأت سيرتها وأدركت الأثر الذي تركه والعلم الذي خلفه بالرغم من أستشهاده وهو في الثانية والأربعين من عمره بعد أن خذله من خذلوا جده.
18) زيـــــد بن علي زين العابدين بن الـحــسيـن رضي الله عنهم
هو سليل آل البيت إمام وفقيه جليل، حفظ القرآن صغيراً بقرائته السبع، وأخذ من علم أبيه زين العابدين الذي توفي وتركه في الرابعة عشرة من عمره.
ولد سنة 80 هجرية، أمه أم ولد سندية (باكستان حالياً)، أهداها المختار الثقفي - صاحب ثورة الثأر لمقتل الحسين في العراق أيام عبدالملك بن مروان، حيث قام المختار ومن تبعه بأحتلال العراق التي كانت خاضعة لخلافة عبدالله بن الزبير الذي أعلن نفسه خليفة على الحجاز والعراق، فقام المختار بقتل مصعب بن الزبير الذي قاومه ببسالة، وكان يدعو لمحمد بن الحنفية لأنه ولي دم الحسين، حتى تبرأ منه ابن الحنفية على الملئ بعد أن تمادى المختار بطلب الثأر وأنحرفت أفكاره، وأنشأ الفرقة الكيسانية التي أنشقت عن الشيعة وعن الإسلام.
تكفله أخوه الإمام محمد الباقر بالرعاية وأكمال تعليمه، وقد يظن البعض أن أقتصار دراسة الإمام زيد لعلومه الأولى على علم آل البيت فقط، قد يدل على نقص في حصيلته العلمية، وهذا غير صحيح، فآل البيت يعتمدون على التركة الفقهية الكبيرة التي خلفها لهم الإمام علي بن أبي طالب من أقضية وفتاوى ومرويات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تولى خلافة المسلمين لما يقارب الخمس سنوات، تولى فيها القضاء والإفتاء منفرداً ، أضافة إلى دوره في الفتاوى زمن الخلفاء الراشدين الذين سبقوه، وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كلما عضلت مسألة قال: " مسألة ولا أبا حسن لها"، مما يدل على مكانة الإمام علي في الفتوى.
وهنا يجب أن أشير إلى أن الكثير من الرواة والفقهاء من التابعين أتفقوا على أن أفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هما الإمام علي وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما، ومن الغريب أن المصنفين والفقهاء في القرن الثاني الهجري وما بعده قاموا بجمع أقضية أبو بكر الصديق رضي الله عنه وفترة خلافته كانت قصيرة، ثم جمعوا أقضية الفاروق رضي الله عنه، كما قام فقهاء العراق بجمع أقضية ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يلتفت أحد إلى أقضية وفتاوى الإمام علي رضي الله عنه.
وكان أئمة آل البيت يدرسون ميراث الإمام علي الفقهي ويزيدون عليه، فعلي زين العابدين درس وأجتهد وأخذ عن التابعين في المدينة، وكذلك فعل أبنائه من بعده، ألا أنهم حرصوا أشد الحرص على أن لا يخلطوا أقوال الإمام علي بغيره، فكانت دراستهم لفقه الغير وأخذ العلم عنهم أنما هي تنمية لفقههم وزيادة في معارفهم، سواء أتفقوا معهم أو أختلفوا. والمدقق في الأحاديث المروية عن آل البيت يجد أن معظمها لا يختلف عن المروي في كتب السنة، بإختلاف الرواي أو بعض الألفاظ.
ولعل أئمة آل البيت حرصوا على المحافظة على تراث الإمام علي، ونقله جيلاً بعد جيل دون أن يخلطوه بآراء غيره من كبار الصحابة والمفتين، بعد أن لعبت السياسة في عهد بني أمية دورها، في عزل آل البيت وسب الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه على منابر المساجد، مما جعل الباحثين عن العلم يتجنبون بطريقة أو بأخرى تراث الإمام علي الفقهي، أو الأستشهاد بمروياته وفتاويه.
وعندما شب الإمام زيد عن الطوق أنطلق في المدينة يأخذ عن فقهائها ويلتقي بعلمائها، إلا أنه لم يروي إلا عن آل البيت، حتى لا تندثر مرويات الإمام علي رضي الله عنه، وأما روايات غيره من الصحابة فقد وجدت من يهتم بها ويجمعها.
ولم يلبث الإمام زيد أن طلب من الأذن من أخيه الإمام الباقر لينطلق إلى العراق ليأخذ عن علمائها، وكانت العراق مقراً للعديد من الفرق الفكرية والسياسية والعقائدية، وكان هدفه دراسة أفكار ومعتقدات هذه الفرق، وبالتالي كان الإمام زيد على عكس غيره من الأئمة الذين برزوا في القرن الثاني، فقد جرت العادة أن يتلقى العلماء علومهم في أقاليمهم ثم ينتقلون لأخذ العلم من فقهاء الحجاز، إلا أن الإمام زيد أخذ العلم في الحجاز وأنتقل للعراق .
ولقد كان لهذا الأنتقال أثر سلبي على مسيرة الإمام زيد، تمثل في:
1) أنتقاله للعراق، أدى إلى أثارة مشاعر أهلها من الشيعة العلويين، وتحدثهم في السياسة وحق آل البيت بالخلافة، ويبدو أنهم يعتنقون هذه الأفكار قولاً لا عملاً.
2) لفتت تحركاته وكثرة أسفاره أنظار الأمويين إليه، فكانت سبباً في تعمد هشام بن عبدالملك أحراجه أمام الناس وخلق مواقف لإذلاله، مما ترتب عليه خروجه عليهم.
وفي العراق ألتقى الإمام زيد بواصل بن عطاء مؤسس فرقة المعتزلة (سنتعرف عليه اكثر في محطتنا التالية)، وكان في سن الإمام زيد وتدارس معه زمناً، خاصة وأن واصل بن عطاء هذا قد تتلمذ على يد عبدالله بن محمد بن الحنفية ابن عم الإمام زيد.
أدت هذه المدارسة بين العالمين إلى تقارب وجهات النظر بينهم وتبينهم نفس الأفكار وخاصة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوصلا إلى دور العقل في حياة الإنسان، فكانا أول المتكلمين في الإسلام عن دور العقل وأهميته في إدراك العلاقة بين العبد وربه.