أن شخصاً بهذا الزهد وهذا الورع، والتقوى والخوف من الله، وهذا الأخلاق والنسب الشريف الذي لايضاهيه نسب، لا شك بأنه قد كسب محبة الناس وأحترامهم، وكان موضع إقدار وتجليل، فإذا مر في طريق مزدحم أفسح الناس له الطريق، وأن كان ذاك الطريق، طريق الحجر الأسود في البيت الحرام، وقد روى هذه القصة عدد كبير من الرواة: " أن هشام بن عبد الملك حج في خلافة أبيه وأخيه الوليد، فطاف بالبيت، فلما أراد أن يستلم الحجر لم يتمكن حتى نصب له منبر فاستلم وجلس عليه، وقام أهل الشام حوله، فبينما هو كذلك إذ أقبل علي بن الحسين، فلما دنا من الحجر ليستلمه تنحى عنه الناس إجلالا له وهيبةً واحتراما، وهو في بزة حسنة، وشكل مليح، فقال أهل الشام لهشام: من هذا؟ فقال: لا أعرفه - استنقاصا به واحتقارا لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق – وهو شاعر بني أميةَ - وكان حاضراً، أنا أعرفه، فقالوا: ومن هو؟ فأشار الفرزدق يقول: هذا الذي تـَعرف ُ البطحاءُ وَطأتهُ *** والـبيـتُ يــَعرفهُ والحِـلُّ والحــَرمُ
هذا ابنُ خير ِ عِبادِ اللهِ كُـلّهـِمُ *** هـــذا التقيّ النقيّ الطـّاهرُ العـَلـَمُ
هذا ابنُ فاطمةٍ، إن كنتَ جاهلهُ *** بـِجــدهِ أنــبياءُ اللهِ قد خــتموا
وَلَيسَ قَولُكَ: من هذا؟ بضائِرهِ *** الـعـــُربُ تـَعرفُ من أنكرتَ والعَجمُ
كِلتا يـَديهِ غِيـَاثٌ عمَّ نَـفعُهُماَ *** يُستوكـَفانِ، ولا يَـعـروهـما عـَدَمُ
سَهلُ الخليقةِ، لا تخشى بَوادِرُهُ *** يَزِيـــنُهُ أثنان: حُـسنُ الخَلق ِ والشّـيم
حمّالُ أثقال ِأقوام ٍ، إذا أفتُدِحُوا *** حُلـوُ الشّمائلِ، تـحلو عـندهُ نَـعَـمُ
ما قالَ لا قَط ُّ، إلا ّ في تَشهّدهِ *** لولا التـّشَـهّـدُ كانت لاءَهُ نـَـعَــمُ
عـَمَّ البَريّة َ بالإحسانِ فأنقشعت *** عنها الغياهبُ والإملاقُ والعَـــــدمُ
إذا رأتهُ قـريش ٌ قـالَ قائـِلـُهـا *** إلى مَكَارم ِ هـذا ينتـهي الـكـَرَمُ
يُغضِي حياءً ويُضى مـــن مـهابتهِ *** فـَما يُكـَلـَمُ إلاّ حـين يـَبتسمُ
بـِكفهِ خـــيزرانٌ ريحهُ عبقٌ *** من كفِ أروَع َ في عرنِيِنِيه شـَـــمَمٌ
يكادُ يُمسِــــكُهُ عرفانَ راحتهِ *** رُكــنُ الحـطــــيمِ إذا ما جاء يَسـتلِمُ
اللهُ شَـرّفَهُ قِـدما ً وعَظّـّمَــهُ *** جَـــرَى بِذاكَ لهُ في لوحِــهِ الــقـَـلَمُ
أيُّ الخـــلائقِ ليست في رِقَابِهِـمُ *** لأوّلــــيةِ هذا، أو له نِـــعَــمُ
من يَشـكُرِ الله يَشــكر أوّلّيـة ذا *** فالدِّينُ من بيــتِ هــذا نَاَلهُ الأمـمُ
يُنمَى إلى ذُروةِ الدّينِ التي قَــصُرَت *** عنها الأكُــفُّ وعَن إدراكِها القَـــدَمُ
من جَــــدُّهُ دان فَضلُ الأنبياءِ لهُ *** وَفَضلُ أُمــــتهِ دانت له الأمــــمُ
مشتـقــةٌ من رســولِ اللهِ نَبعتُهُ *** طابت مغارسُــهُ والخِـيمُ والشـــّيَمُ
يَنشَقّ ثّوبُ الدّجى عن نــورِ غرّتهِ *** كالشمسُ تنجابُ عن إشراقـها الظّـّـُلَمُ
من معــشرٍ حبُهُّمـ ديـنٌ وبغضُـهُمُ *** كُفــرٌ وقربُهُـــمُ منجىً ومُعتَصًمُ
مُقــدَّمٌ بعد ذِكـرِ اللهِ ذِكرُهُــمُ *** في كل بـدءٍ ومخـتومٌ به الكَلِــــم
إن عُدّ أهلُ التّـقـى كانوا أئِمتهم *** أو قيل "من خــيرُ أهل الأرضِ؟" قيل: همُ
لا يستطيعُ جـوَادٌ بعـد جُــودِهِمِ *** ولا يُـدانيـهمُ قــومٌ وإن كَرُمـــوُا
هُمُ الغـُــيُوثُ إذا ما أزمة ٌ أزَمَت *** والأُســدُ أُســدُ الشّرى والبأسُ محتدمُ
لا يُنقِـصُ العُسـرُ بسطاً من أكفّهِمُ *** ســـيّانِ ذلك إن أثروا وإن عـدِموا
يُستدفعُ الشرُّ والبلوى بحُبّــــهِمُ *** ويُستَرَبّ به الإحســـانُ والنِّعــمُ
" فغضب هشام من ذلك وأمر بحبس الفرزدق بعسفان بين مكة والمدينة، فلما بلغ ذلك علي بن الحسين بعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، فلم يقبلها، وقال: إنما قلت ما قلت لله عز وجل ونصرة للحق، وقياما بحق رسول الله في ذريته، ولست أعتاض عن ذلك بشيء. فأرسل إليه علي بن الحسين يقول: قد علم الله صدق نيتك في ذلك، وأقسمت عليك بالله لتقبلنها فتقبلها منه"([1]). بالرغم من أسلوب الفرزدق المتميز بالمبالغة والأكثار من أستخدام الصور البلاغية والمفردات المعقدة ألا أن هذه القصيدة كانت مختلفة تماماً عن الأسلوب الذي أعتاده الناس من الفرزدق حتى أنكر بعض المؤرخين هذه القصيدة على الفرزدق، ولكن على ما يبدو أن ورع علي بن الحسين ومكانته بين الناس أثرّا على أسلوب الفرزدق المعتاد... نقل أبنائه عنه مجموعة من الأدعية هي الأروع في مناجاة العبد لربه – وللأسف يتم أن بعضها دارج بين الناس ولكنها لا تنسب إليه، جمعت فيما بعد فيما يعرف بالصحيفة السجّادية نسبة إليه، فهو يعرف بعلي زين العابدين وعلي السجّاد وذو الثفنات بسبب كثرة سجوده وركوعه... توفي في تسعينيات القرن الهجري الأول وأختلفت المصادر في تحديد سنه وقت وفاته أو تحديد السنة التي توفي فيها، وقد بالغ بعض المؤرخين وجعلوا وفاته بعد وفاة أخته السيدة سكينة بنت الحسين التي توفيت في العشرينيات من القرن الهجري الثاني... ألا يستحق هذا العابد الزاهد والعالم الجليل من آل البيت أن نقرأ سيرته ونتعرف عليه؟
******** [1][6])) – البداية والنهاية – الحافظ ابن كثير – ج9.