إنني أحب أن أجلس لوحدي في ارض كمثل هذه الأرض أنيسي فيها صوت الشلالات … و خرير الأنهار … و زقزقة العصافير … تلامسني نفحات النسيم و تتحرك من حولي ورقات الأشجار…و يتلون الكون بأجواء مختلفة مشمس ممطر غائم مشرق مقمر مشع … أحب أشياء كثيرة مما تنتشر بالطبيعة…و لا تلومني و إن كنت غريب في طبعي لكن سعادة في رحلتي بهذا الشكل
اخي الفاضل نسيم نجد
قد يبلغ الصمت مبلغ أقصى من الكلام في الوصف ليختزن أعمق الصور المختزنه في طيات الذاكرة
ليذوب ما يذوب منه لاحقا في حرارة سرد الحديث حتى وإن كان مع النفس أو إلى النفس ....
أغبطك أخي الكريم لجلوسك وحدك بين أحضان الطبيعة فما مثل دفء أحضانها عشيقة تسرق لباب الروح
23 October, 2008 بواسطة : نسيم نجد رحلتي عبر القطار المتسلق إلى أعلى قمة في أوربا جبال جينفرو (Jungfrau )
حق لأهالي أنترلاكن أن يفخروا بالجبل جينفرو … و حق لهم أن يضعوا رسمته على الميداليات التذكارية … و أن يحفروه على الألواح الخشبية … و أن يلتقطوا له الصور الفتوغرافية… فهو بكل شارع يوضع … و في كل محل يعرض … و في كل مكان ينصب… من زار إنترلاكن و لم يصعد الجبل فقد فاتت عليه فرصة التعرف على أشهر معالمها… فإن كانت البحيرتين أفضل مارُسم على الأرض… فالجبل و قمته أفضل ما عانق السماء في تلك البقاع…إن مكمن الإبداع في ذلك … أنها أعلى قمة جليدية في أوربا يصلها القطار الجبلي المتسلق …حيث تعانق عربات القطار الممتدة رأس ذلك الجبل ثم تقبله مع هامته و تعود …فهي عربات تتشبث بقضبان منصوبة في وسط نفق محفور يغوص بك في ظلمات ثلاث حتى يبلغ بك إلى ارتفاع تلك القمة و المقدرة بـ ( 3454م ) .. بل لا تقل قمة واحدة… إنما هي قمم ممتدة مد النظر تكتسي بثوب البياض…فالثلاث قمم المشهورة هي : Monch - Eiger - Jungfrau و هي تظهر بشكل جلي من خلال الصورة السابقة و التي استقيتها من نشرة مأخوذة من مكتبة المطويات في الفندق . و عندما تقرر الذهاب بمثل هذه الرحلة فأنت مخير هل تذهب من انترلاكن مباشرة و من المحطة الرئيسية و عبر توقفات عدة حتى تصل القمة…أو تختار الوصول بالسيارة لمدينة (LAUTERBRUNNEN ) وهي آخر مدينة تصلها السيارة ثم تتابع المسير للقمة عبر القطار العادي و تبدله من مدينة (KLEINE SCHEIDEGG ) و تستقل القطار الجبلي .
( و هذا خط سيري برحلتي حيث يمثل اللون الأزرق استخدام السيارة و الأحمر يمثل القطار العادي و الأخضر القطار المتسلق و هي خطة رحلتي )
أما رحلتي و التي بدأتها من مدينة إنترلاكن… فقد كانت عبر مراحل ثلاث… أولاً بسيارتي … ثم ركبت القطار المعروف… ثم بدلنا إلى القطار الجبلي المتسلق ..فإليكم إياها مفصلة ….
في صبح باكر من أيام الأميرة إنترلاكن…ركبت سيارتي ثم بحثت عن آخر المدن التي توصلني إلى آخر نقطة يمكن أن تصلها السيارة … فوجدت و بإرشاد من أخي أبو ريان أن مدينة (LAUTERBRUNNEN) هي آخر النقاط التي تصلها السيارة…و قد انطلقت من INTERLAKEN و مررت بسيارتي على المدن التالية WILDERSWIL- ZWEILUTSCHNEN – فكانت رحلة ماتعة استمتعت بها بجمال الطبيعة …
و ما يحتويه الطريق من القرى الصغيرة … و الأنهار الجارية و التي تعاكس سيرنا … فبينما نحن صاعدون للقمم فهي قد أتت للتو من الرؤوس الجليدية …تحمل رسالة العشق من أعالي جبال الألب لتلك الأرض…فلا يقف ذلك التراسل أبداً …
فمن كل قمة تذوب قطع من الثلج ناصعة البياض … فتتحول إلى مياه زرقاء عذبة صافية … تمر بأخاديد و خوانق …و تنزل من سفوح و تهبط عبر شلالات …و تعبر غابات و تخترق أراضي و مزارع …و تجاور طرق و قرى …و تصعد صخور و تعبر من تحت جسور…حتى تتلاقى مع بحيرتي الحب …بحيرتي إنترلاكن….فهناك تبلغ رسالة الحب من أعلى قمة في أوربا إلى أجمل بقعة في أوربا…واصلت المسير حتى وصلت إلى محطتي المقصودة : LAUTERBRUNNEN
…و توجهت إلى محطة القطار فركنت السيارة في مواقف السيارات الملاصقة للمحطة بمبلغ تدفعه بواسطة تذكرة تستلمها ثم تسددها عند عودتك بواسطة الأجهزة المخصصة ( لذا خذ التذكرة معك في روحتك حتى لا يضيع الوقت عليك بجلبها من السيارة ثم العودة بتسديدها ) و أسعارها بسيطة بالمقارنة بقربها من المحطة …
فطلبت من رجل يقف بين القطارات أن يدلني على القطار المنطلق للجبل ….فأخبرني أن هذا القطار ينطلق من هذه المحطة و يمر بالمدن التالية (WENGWALD – WENGEN – ALLMEND – WENGERNALP –و يتوقف بآخر محطة (KLEINE SCHEIDEGG) في رحلة الصعود عبر القطار جاورت أشخاص مختلفين و بطبائع متفاوتين…
ركب بجانبي على هذا القطار رجل و زوجته و طفلتهم … فكانت الطفلة تتأمل و عبر النافذة تنظر و بهدوء تتحرك..و كنت أتابع حركتها و يعجبني منظرها و هي ترسل نظراتها للطبيعة… فكنت ألحظ جميل البراءة في عينيها فتنعكس الطبيعة منهما …و تحرك النسمات شعرها الذهبي فتلمع مع أشعة الشمس خصلاتها فيسلب جميل بريقها القلوب و العقول…
لقد كانت فتاة صغيرة هادئة كهدوء الطبيعة هناك … جميلة كجمال الأرض هناك … صافية كصفاء السماء هناك … التفتت بخفة و نطقت بحروف لوالديها فكان نطقها تغريد البلابل و زقزقة العصافير …لقد وقعت عيناها على عيني فكانت لحظة جميلة… فكأني أبحث عن شيء لم أجده بكل العيون…و بعد لحظة هي بعمر الجمال كله صرفت نظري عنها إلى الطبيعة
… فكانت الطبيعة هناك تحاكي تلك الفتاة الصغيرة… فالأنهر و البحيرات هي من لون عينيها …و أشعة الشمس المتسللة عبر السحب هي رفرفة شعرها…و صفاء الكون يحكي براءتها …هل هناك أجمل من أن يجتمع جمال الطبيعة و جمال البراءة…. بينما أنا في هذا الجو الشاعري و خيالي سابح بنسج التشابه و الاختلاف و المقارنة بين الطبيعة و براءة الطفولة…
إذ مرت علي بصورة خاطفة رسمة ماعز أو عنز أو معيز فقطعت كل أفكاري فلم أجد أي توافق بين طبيعة الماعز و تلك الفتاة … فحاولت أن أطردها عن ساحتي …لكنها أبت … و تسللت قريبة إلي لتنفذ إلى حلمي الجميل ( و الله النشبة ) …علمت أني بعالم الواقع …و أن الماعز هي كتبة النهاية لتلك الحكاية…سامحك الله ياماعز لماذا لم تتركيني أكمل تأملاتي و أستمر بأفكاري و أبقى مع أحلامي… و الغريب على ذكر الماعز أن الماعز في كل الأماكن في العالم لها نفس الطباع و الشقاوة و عدم مراعاة الآخرين… فكأن هذه العنز لم تعيش بين تلك الطبيعة و تترعرع بين تلك لمروج…فلم تكسبها الزهور بألوانها أي نوع من الرقة أو اللطف…و لم تكسبها الأجواء و جمالها مظهراً حسناً في هندامها..فكل معيز العالم يحملن من الشقاوة مالا يُصبر عليها … فستظل الماعز ماعزاً في أي مكان ربت و نشأت …ألا تعتقدون أن الموضوع جنح عن مساره الطبيعي… فصارت الرحلة أشجار و أنهار و معيز… إذاً يحسن بنا أن نعود… و صلنا للمحطة المقصودة (KLEINE SCHEIDEGG) و هي المحطة التي يمكن أن تستقل بها القطار الجبلي…سلمت صاحب التذاكر مبلغ الرحلة وقدره 100 يورو و معها حزني على فراقها…وسلمني ورقة صغيره و معها ابتسامة مجانية…بعد هذه المحطة تغيرت الطبيعة عن سابقتها…و تبدلت فمن قبل كانت الأشجار و الغابات و الأنهار تملئ الأرض…الجبال و السحاب و الثلوج هي منظر السماء… أما بعد هذه المحطة فبدأنا ننظر للجبال من تحتنا و قطع السحب منتثرة فوق المدن و لم يبقى من كل تلك المناظر إلا منظر الجبال العالية من جبال الألب و التي يبرق بياضها من بعيد…و من فوقها سحب داكنة تارة تعتليها و تارة تمر من وسطها و الشمس لحظات تظهر ثم تغيب عنها… و الأرض كذلك تبدلت فلم فالأشجار انجلت و صارت الجبال مسطحات خضراء على مد البصر … لا تحتوي سوى أعشاب مخضرة في ثناياها زهور و شجيرات مورقة…و من بينها يوجد ممرات للمشاة متعرجة تنحني و تنثني على حسب الطبيعة هناك… فهي تمر من جانب مستنقع ماء أو تعبر من جانب حظائر الأبقار ..ثم تختفي تحت بعض الجبال و تعود مرة أخرى هذه الممرات… و هذه الممرات يستخدمها الأوربيين بكثرة لممارسة رياضة المشي على القمم و روؤس الجبال…أو مايسمى TREKKING و هي رياضة جميلة تجعلك تعيش الطبيعة الحقة… فترى بقع صغيرة في القاع هي مدن كبيرة على أرض الواقع…و تنظر لقمم بيضاء في الأعالي تجعلك تسارع الخطوات و تحثك على المزيد من الهمم لتصل إلى تلك القمم… و تمر بين يديك سحب كثيفة تجعلك كأنك تسبح أو تحلم بعالم آخر…منظر هواة المشي جميل و رهيب… فهم ببدلات ملونة على طرق ملتوية بين زهور و مروج مختلفة…قد علقوا حقائب الترحال على الظهور…. و قطفوا بأيديهم الزهور… و بانت من على محياهم علامات السرور…بينهم الكبير و الصغير…الشباب و الشابات …فرادى و جماعات…تجد أغلبهم من كبار السن و معه شريكة العمر…فلا هو بعد هذا العمر فرط فيها و لا خانته آخر أيامه عن من كانت يوماً من الأيام مصدر لأسعد لحظاته…تجد بينهم الحديث المتصل… و التنافس على صعود القمم…و هم يتناظران كأنهما يصعدان أول درجات العمر…. و هناك و تحت شجرة شاب و فتاة…قد شربا من كأس الحياة…فحديثهم حب..و سمعهم حب…و نظراتهم حب…تجري من بين أيديهم السحب فتنمحهم أحلام جميلة صافية نقية…و الورود التي حولهم آمال وردية دافئة…و القمم التي تحيط بهم نظرة بيضاء مستقبليه مشرقة…يحدثها الشاب فتقبل عليه بسمعها و بصرها…و تحدثه فتاة أحلامه فيقع قلبه بين يديها…فسبحان الله العظيم…و إني لأعتقد أن الأرض هناك لتنمي الجمال و تضفي على النفس السرور الذي يزيد من بهاء الحب…لحظات من السير في هذا الطريق و بين تلك المناظر… حتى انقطعت بنا السبل فقد دخلنا في نفق عظيم فكأنه أبتلع قاطرتنا …و ذلك بعد مدينة ( EIGERLETSTCHER )..فكل المسافة المقطوعة و لمدة طويلة هي عبر نفق تحت الأرض … و لا يوجد مخرج أو إطلالة على العالم الخارجي إلا في ثلاث استراحات… يتوقف فيها القطار لمدة خمس دقائق بالضبط … ليطلع الزائر على الجبال المحيطة من خلال زجاج حاجز سميك … يجعل المرء يستمتع بالمنظر و يحميه الزجاج شر البرد الشديد …و قد جهزت تلك الاستراحات بدورات مياه مهيأة ومطلات للتصوير مناسبة ….أثناء هذه الرحلة يُعرض فلم وثائقي عن الجبل … فيه معلومات متكاملة عن أقسامه و كيف تم إنشاؤه…تجعلك تعيش تلك اللحظات بأدق تفاصيلها عبر الكلمة و الصورة…لكن كل تلك المحولات و الأفلام الوثائقية لا تجلب الأنس و السعادة …كلما تذكرت أننا أصبحنا من أهل الأرض …فكلما نظرت و إذ الدنيا من حولي سواد دامس…و إذ المناظر الجميلة تتحول إلى عالم بهيم غريب…كمثل من كان في سبات وينعم بأحلامه…. ثم استيقظ فوجد نفسه في ظلام الليل الحالك… ولكن و إن غابت عني المناظر الجميلة…و أنا عاشقاً من عشاق الطبيعة … و ذلك العشق يصفو بالوحدة و يستلزم الخلوة…فإن لي عشقاً آخر يستحسن أن أعيش معه ظلمتي الحالية…فإني أعشق أن أعيش وسط أناس لا أعرفهم و أن أتصفح وجوههم … و أن أحاول أن أفك طلاسم تعابير و جوههم …و أعيش أجواءهم … و أعيش بين نظراتهم أتأمل تأملاتهم … و أسبر أغوار أسرارهم … و أسرح عبر أفكارهم…إنني أحب أن أعيش بين الناس و تصتك أكتافي بأكتافهم …. و أن أسير معهم في طرقاتهم و لمسافات بعيدة معهم… أما إلا أين ؟ و لماذا ؟ فلا أعلم ….ولا أريد أن أعلم … بل ذلك لا يهمني… فقط أحب أن أكون جماعياً … و أحب أن تضرب أقدامي على الأرض فلا أسمع وقعهما بل أسمع وقع أقدام الآخرين …أحب أن أسمع ضجيجهم و هم يتحدثون… أبتسم عندما يضحكون… أتعجب عندما يندهشون …. عندما أجلس على كرسي تحت شجرة أو مضلة أو مُطل على بحيرة و أتأمل المارة… هذا ضاحك مستبشر و آخر حزين منكسر …هذا بين يديه فتاته و ذاك يندب حظه الذي فاته…و هذا يحمل بين يديه كتاب وذاك يحاكي أحب الأحباب… فعندها تنزل الفرحة و السرور في قلبي…أحب أن تتقاطع أمام عيني أجسام البشر و تختلط أقدام السائرين في اتجاهات مختلفة و أن أعيش بين ركام من البشرية …في ناظري أمواجهم و في سمعي هديرهم …في مثل هذه الأماكن أجد نفسي… إن من يتأمل الناس …و يستطيع أن يقرأ وجوههم …و يتابع تحركاتهم …و يفهم تصرفاتهم ….و يعيش أخلاقهم و طرق تعاملهم مع بعض فهو في سياحة أخرى …و لعل من الأماكن التي توفر لي هذا الجو المناسب … هي القطارات بصوتها و ضجيجها و زحمتها و أصوات الناس فيها… أستند على كرسي مطل على النافذة … و أختار زاوية تكشف كل محيط العربة …ثم أتأمل الحياة و الناس…لذا في رحلتي هذه كانت حياة القطار جميلة …فقد تنوعت المحطات و تبدلت القطارات و كثرت الوجوه و اختلفت الجنسيات و تعددت القراءات بتعدد التصرفات…فهنا فبعد أن أظلمت الدنيا من حولي في وسط هذا النفق…حاولت أن أدير بصري لأبحث عمن أبدأ معه حكايتي…نعم…هاهي تلك العجوز القاعدة على كرسي بعيد أجدها قد شدت بصري و فكري بتصرفاتها…فقد ركبت معنا في نفس هذه القاطرة هذه العجوز العقيم و ومعها طفل صغير هو أقرب للتبني من الولادة و كهل بجر خطاه بصمت غريب…جلس الكهل و أخذ يرفع عينيه و يدور حول الحضور… ثم مال رأسه على جنبه و أخذ بالشخير…و أما العجوز فقد أخرجت من حقيبتها كاميرا كبيرة أكبر من كاميرة أخي كابيان و بكثير …ثم علقت في عينها عدسات عديدة واحدة تلوا الأخرى حتى أصبحت طويلة …نهضت و أمام النافذة تسمرت …و أخذت تلتقط كل لحظة لقطة…و لقطاتها غريبة لا تمت إلى الطبيعة بصله… و زوجها الكهل يتابع الموقف من بعيد عبر عينين شبه مغلقتين و بصوت يبثه عبر شفتيه المطبقتين فينتزع الحروف من خلاله انتزاعاً و بلهجة مدغمة …و زوجته لا ترد عليه بأي كلمة… أما الطفل فبيده لعبته و يقلبها و ينظر إليها و الأب و الأم في شغل عنه…و لم تجلس أو يهدأ لها بال إلا عندما دخلنا في النفق المظلم…
أما التناقض بين الشعوب و الاختلاف العجيب فهو ما رأيته من تلك الفتيات … فقد جلست أمامي في القطار الصاعد ثلاث فتيات من اليابان… فكن كعادة الشرق أسيويات قمة في الأدب…كعصافير في قفص لا تسمع لهم إلا زقزقة و لحن شدي…فتسمع تشنق ينج شي ثم ههه و ههه و ههه ثم تشك تشك تشك…( الترجمة تشنق ينج شي = كلمات يابانية لا أعلمها…ثم ههه و ههه و ههه قهقهات بصوت عذب خفيف خفي…أما تشك تشك فهي أصوات الكاميرات و هي تلتقط و بكثرة صور بأشكال متعددة )…. هذا حالهم …و أما حال شعب قريب منهم…فهو أغرب فلا أعلم كيف نبتت تلك الآداب بالشعب الياباني و زالت من هذا الشعب الثاني وهو الشعب الهندي والذي سوف أقص عليكم نبأه بعد حين ….. لعلي أعود إلى رحلتي واستكمل قصة الهنود في حينها في قطار العودة…وصلنا إلى نقطة النهاية و الأخيرة… وهي جبال Jungfrau …فنزلنا من القاطرة….فوجدنا عالم غريب عجيب…فهي جبال شاهقة …تحتوي ببطنها ممرات متعددة متنوعة … يكاد الرجل الحاذق اللبيب أن يتوه في سراديبها الناعمة البيضاء الصافية… فيخيل إليك كأنك تعيش بوسط زجاجة شفافة… أو بجوف لؤلؤة نقية…أو بوسط قطرة ندية…الجدران و الأسقف و الأرض بنفس اللون و النعومة…و الجو بداخلها شديد البرودة… منها ماتصعد إليه بسلالم … ومنها ما تصله المصاعد … أو تهبط إليه عبر أنفاق متعددة تسبح فيها بعالم أرضي جبلي عجيب … أخذت بالمسير…و الجبال البيضاء تغطي المحيط…أنظر إلى خطاي لعلي لا أخطئ الطريق…أو أتعثر في مزالق الأرض… فهناك الكل يلبس الجزم المخصصة للثلوج…إلى ذلك الشاب العربي…و الذي بدأ كأنه كهل كبير يتمسك بالمقابض الخشبية المثبتة على الجدران الثلجية…عيني على طريقي و عيني الأخرى على الناس لعلها لا ترسل منهم نظرات السخرية أو نظرات العطف أو نظرات الرحمة…فكل نظرة هي جديرة بأن تبعثر خطواتي و تجعل أقدامي بمكان هامتي… بيدي أمسك المقبض و بالأخرى كامرتي و أختلس الفرص لأسجل لقطة من هذا العالم الأرض المخيف…و الذي زاده هيبة و وحشة هي تلك التماثيل الجليدية و التي ركنت في أحد السراديب… أسير الهوينة كطفل بدأ يخطو خطواته الأولى في الحياة… فلمحت فجأة شيئاً يجذبني إليه و بقوة…نظرت و تأملت …ثم نظرت و تفكرت …ثم نظرت و اقتربت…هل حقاً ما أرى أم أن خوفي صور لي هذا المنظر… دققت النظر فوجدت منظر الأنس و الفرح …. و التي سرتني فكأني قابلت أهلي و خلاني…فهل تعلمون من قابلت …فإليكم الصورة… إنها كتابة محفورة على القضبان الخشبي في سراديب قمم أوربا…لا أخفيكم أنني سعدت بها و لا أعلم لماذا ؟… فاليوم إذ يتزين تقريرنا بهذه الصورة… فإني قول لهما بارك الله لكما و بارك عليكما و جمع بينكما بخير…و أقول لأمل كوني له كل الأمل…و أقول لسلطان أسعدك الله بها في الدنيا و جمعك الله بها و أسكنكم ذوتا أفنان ….و نقول لكم إن كنتم ممن عَبَر هذه الصفحات أو مر على مرشدنا العربي ( العرب المسافرون ) فهل سطرتم ذكريات حياتكم الأولى في هذا المنتدى ..فهي نعم الذكرى …و لكم أن تستمتعوا بها كل حين لتنعموا بجميل الذكريات و تسعدوا بتذكر تلك اللحظات … أو تكون ذكرى جميلة لكم و لأبنائكم في المستقبل ….أو رحلة عسل مجانية في كل حين…مجرد مقترح لكل إنسان…أعود لموضوعنا … تدرجت في المسير … فوجدت في ناحية من قممه أعلى مكان للتسوق في أوربا … و يحتوي خرائط تفصيلية لتكل المنطقة و المناطق السياحية في إنترلاكن و سويسرا بشكل عام…و يحتوي على نماذج تذكارية للجبل و المدينة و بعض ماتشتهر به البلاد …و في زاوية قصية من طرف تلك القمة … و عبر الدهاليز الممتدة في جوف لأرض تقودك الأسهم عبر تلك الممرات إلى مطعم الخدمة الذاتية للوجبات الخفيفة… أو لك أن تختار الراحة و الوجبات المختلفة عبر مطعم كبير تقدم فيه أنواع و أصناف المأكولات الشهية …أما أنا فقد اخترت الوجبات السريعة … فنظرت للأصناف و لم أجد ما يروق لمزاجي أو ينعش شهيتي…و كانت أمامي فتيات من خليجنا … فقلت في نفسي سوف أختار مايختارون و آكل مما يأكلون … فالسيدات أعلم منا بالأفضل من لمأكولات…فوجدتهم يختارون رزاً أبيض فوقه قطعة من لحم الضأن ( يظهر أنه لحم ضأن…و متأكد أنها ليست قطعة من قويصرة الحاشي ) فحدثتني نفسي هل من المعقول أن آكل فوق أعلى قمة في أوربا و بجانب جبال تلبس الحلة البيضاء رزاً أبيض …أجابت نفسي على نفسي و بدون تردد.. بلا ثم لأ …ثم أتبعت أنه يجب التنويع و التغيير عن الروتين المعتاد…. فمثل هذه الوجبة من الممكن أن نجدها في مطعم المائدة البخاري في أحد شوارع الرياض…و حدثتني نفسي مايقول الناس عني…فكيف لو علم بذلك خبير المطاعم الراقية أخي العزيز الشاب … لكانت كارثة و مستمسك على من هم من أمثالنا…فقررت أن لا اختار الرز بأي شكل من الأشكال … فلم أجد مايناسبي إلا قطعة سندوتش بالجبن تجعلك تتذوق الاجبان السويسرية … و مشروب غازي ينزل بالجسم البرد ليتأقلم خارج الجسم مع داخله… و قطعة من اكيك تعمل على تهضيم الوجبة الدسمة الغنية بمادة الجبنيك …و ماهي إلا لحظات حتى قضيت على الوجبة ..فلست من هواة الإطالة الجلوس على الطعام … بل لم آتي هنا للأكل … فلقد تركنا الأهل و الزوجات و الأبناء من أجل شيء أعظم و أجل … فلقد تركناهم حتى نستمتع برؤية الطبيعة و إمتاع النفس و جلي الهم…نعود لحديثنا …. و من بعد الوجبة لك أن تتجول على ركن في أحد الزوايا يظم متحف جليدي فيه بعض المنحوتات …. و معرض لبعض الأدوات والملبوسات التي استخدمت في حفر تلك الأنفاق و كيفية إنشاؤها و خطوات و مراحل البناء … و لقد أستمر العمل بهذا المشروع العملاق عدة سنوات بعدد كبير من العمال…
نظرت من أحد المنافذ فوجدت البرد شديد…و اكتفيت بتواجدي من خلف الزجاج …فقد كان يوماً شديد البرودة …. ارتجفت منه فرائصي من منظره فكيف لو وطأت قدماي بياض ثلجه…فمن كان يريد الوصول لتلك القمم فعليكم الاحتماء بالملابس الشتوية…و تتبع درجات الحرارة قبل أن تصعدوا تلك الجبال …و من كان يشكو من الضغط فعليه الاحتراس ففارق الضغط الجوي قد يكون له أثر على مرضى الضغط…فقد عدنا من تلك الجبال و جميع الركاب كأنهم بحالة إغماء من التعب و الأعياء… و كنت أنظر إلى القطارات الهابطة أثناء صعودنا و استغرب أنهم جميعاً نائمون…فعندما هبطنا و حانت ساعة الصفر لدينا عرفت السبب …فقررت أن أنام من الإعياء و التعب و تغير الطقس و الضغط …و لكن كانت عائلة هندية أو قل مجموعة سياحية لنا و لجميع الركاب بالمرصاد ….فقد جلست بموقع لا أحسد عليه فقد كان كرسيي بوسط مجموعة منهم هم و أطفالهم و نسائهم…و يبدو أنهم من عائلة واحدة…و برزت من بينهم سيدة بالثلاثينات من عمرها… برزت بصوتها الجهوري الذي يصل إلى مسمعك ككتلة واحدة …فكانت هذه السيدة تلعب مع هؤلاء الأطفال لعبة الحروف تنادي من يأتي كلمة تبدأ بحرف ( p ) ثم يتسابقون بقذف الكلمات منها مايبدأ بحرف ( p ) أو حرف ( b ) فهذا صحيح و ذاك خاطئ هذا يصيح و ذاك ينوح …. و يتحمسون حتى يصل صياحهم أنحاء الكبينة فتنقلب كروضة أطفال…( بيني و بينكم كنت أجهز الكلمة و أخفيها بصدري )…أما الأعجب فهو ذلك الرجل الهندي الذي أعياه التعب و هد حيله صعود الجبل … فاختار أن يرمى بجسمه المنهك على المقاعد فلم تكفه المقاعد في الجانب الأيسر …لذا أضطر أن يمد أرجله على الكراسي المقابلة… و صارت أرجلة كسياج حاجز في الممر بين صفوف الكراسي…فمن أراد أن يمر فعليه أن يقفز هذا الحاجز…و لعل هذا المنظر و هذه الأصوات لم ترق لي و لم تعجبني… و لم أستحمل نظرات من هم في القطار و يعتبرونني من ضمن هؤلاء السياح الهنود المزعجين…فانتقلت للجهة الثانية من القاطرة…فكنت ألمح على وجوه الركاب آثار تلك الأصوات و التصرفات المزعجة من الهنود…و أعيُن العتب و نظرات اللوم تتابع كسهام على شخصي الضعيف… لم يكن هناك فكاك من هذه النظرات إلا بأن أسايرهم و أغير من تعابير وجهي مع كل تصرف أهوج من الهنود …ليفهم من حولي أنني لست منهم أو أن تلك السيدة التي تصرخ كمذياع لست أعرفها … و لا يجمعني بها قرابة أو نسب أو جنسية أو أرض.. لقد كنت أتمنى أن أرفع لافتة تنبه في القطار أنني لست من هؤلاء المزعجين … وأكتب عليها و إن كنت من العالم النامي الثالث و من تلك القارة لكن… أنني لست بهندي و إن تشابهت التقاسيم و تقاطعت بعض السحنات مع تلك الوجوه … و إن أردتم أن أحلف بالأيمان المغلظة لحلفت…لكن قطع علي حبل أفكاري كابح القطار و الذي يلزمنا بالتغيير أو النزول في بلدة… خرجت من القاطرة و الألوان و الأصوات و قد أختلت و اختلفت وتبدلت في رأسي …فشممت بكل قوة هواءً نقياً فحسبت أنني سحبت كل مافي الكون من الهواء حتى عادت جميع الألوان لوضعها الطبيعي…تجولت ببصري على من حولي و نظرت معتبراً بالقرى التي تحتضنها الجبال …فمما يميز تلك المحطات التي في أعالي الجبال أنها محطات مفتوحة تجعلك بين الطبيعة مباشرة… فالأغنام قريبة و صوت الأجراس تقرع إيقاعات الطبيعة…فبين الجرس و الثغاء تناغم و لحن ينافس أحلى المعزوفات…و من بين الأشجار الخضراء يخرج قطار أحمر فكأنه يولد من رحم الغابات… و الأرض تغطيها الأعشاب الصغيرة و التي تنبت بالزهور الجميلة ….و قطرات المطر تنزل بتنوع عجيب رذاذ بسيط أو هطول شديد أو فقط سحاب لطيف رقيق… نهرب منها مرات أو نحتمي بحمى المظلات أو ننتعش ببعض القطرات…سبحان من خلق… و المباني المرصوصة بألوان فاقعة تجعلها كزهور يانعة..كوخ أحمر… أو مبنى اصفر … أو بيت وردي فلا تعلم هل من المعقول أن تحولت تلك المباني كالزهور… يقرع جرس القطار المغادر من البلدة فيرجع صداه بين الجبال…و أتعلق به قبل أن يفلت مني…و يتعلق قلبي بكم حتى أعود إليكم مرة أخرى و حلقة جديدة بإذن الله تعالى…
و لكم تحياتي …نسيم نجد
23 يناير, 2009 بواسطة : نسيم نجد لوسيرن – لوزيرن - Lucerne-Luzern تابعت طريقي بعد أن استمتعت بتلك القرى الصغيرة و التي سكنت بين إنترلاكن و لوزيرن…فعندما تمسك مقود السيارة هناك… فتأكد أن المتعة قد حضرت…و ذلك لأن الطرق السويسرية هي من أفضل الطرق في أوربا…وليس جمالها فقط بما تحتويه الطبيعة من حولها…بل لوضوح إشاراتها …
و تتعدد اللوحات الإرشادية التي تصطف في عرض طرقاتها …فتمسكك من يدك …و توصلك لمقصدك …وبدون أن تستعين بأجهزة الملاحة الحديثة…
حيث تُوضح المدن على أطراف الطرق…وترشدك إلى العواصم البعيدة و المدن القريبة…و تجزأ لك أي مدينة أجزاء صغيرة تجعلها للفهم سهلة و يسيرة…
مررت بمدن و قرى عدة ( Sarnen–Diesselbach – Obsee ) قبل الوصول إلى مدينة لوزيرن … و التي أتيت إليها من أجل أشياء محددة …
فكان باستقبالي جمع من الزهور السويسرية … و التي تلونت بألوان عدة …وبدت بأجمل حلة…
ليست الزهور فقط هي التي كانت في استقبالي…بل حتى جمع من البط الذي أخذ يروح و يغدو…و يقترب ويبتعد…ينظر إلي بنظرات ثم يتأمل … و يفكر ويتفكر.. و أحس أنه يقول بنفسه: مالذي أتى بهذا الغريب…فلا هو من أرضنا و لا عرقه يصب في عرقنا…
لم أجزع من قوله بل استمتعت بمنظره…ثم أزحت نظري عنه…فهكذا الغرباء الكل ينظر إليهم نظرات استغراب…و إن حسُنت فهي نظرة إشفاق …خرج البط من البحيرة…فكأنه أحس بمشاعر الغضب التي اكتنفتني من نظراته…و بما سببته نظراته هو و نظرات أصحاب الأرض وما أثرت به على هذا الغريب المسكين في تلك المدينة…و لاأملك أمام تلك النظرات سوى الاستسلام…فأنما أنا ضعيف بوحدتي…فكيف عندما أعيش في أرض غربة …و تحيط بي من كل مكان العيون التي ترقبني …حتى أن المباني الشاهقة ….والجسور الممتدة…وكل شيء بالمدن الكبيرة …لتدخل الشك إلى نفس الغريب ممن هم من أمثالي بنظراتها المتتابعة…وتشعره بأنها تنظر إليه …بل و أنها تتابع خطواته في كل زمان ومكان…وذلك بعكس القرى التي في الريف…حيث ان الطبيعة و الزهور لكأنها تحتضن الغريب…و تمده بالراحة والطمأنينة والأمان…لذلك…أسعد هناك..و يزول قلقي …و تنفتح نفسيتي…فأنا أحس أنني بين من يعرفني ..
البحر و السفينة …منظر يبحث بالنفس الأشجان والأحزان…لقد تمنيت أن تُقلني هذه السفينة إلى أرضي و التي أحس ببُعدها الشديد عني…فبُعدها لا يقاس بالمسافات أو بالمدة الزمنية التي تفصلني عن أهلي و بلدي…بل مقياسها بمقدار ما أجده من الشوق في قلبي…ومقدار ماحرمت من نظرات أمي…و بالقدر الذي اشتقت فيه إلى تقلب طفلتي بحجري…وبالقدر الذي أفقد فيه سكني ومودتي وزوجتي…هذا البعد من الصعب أن تقيسه بزمان أو بمسافات…فهذه الأيام التي قضيتها بعيداً عنهم…أعتبرها أيام قد سقطت من رزنامة حياتي…فلن أستطيع أن أستعيدها مهما يكن…ولن تعادلها أي سعادة في هذا الكون…فإن كانت هذه الطيور تهاجر…وهذا السفينة تبحر…فإن قلبي تحت هذه الشجرة يستظل…ويندب حظه الذي جعله يبتعد عن الأهل كل هذه الفترة…لماذا تحركت المشاعر ؟ …لا أعلم فهل أنا استيقظت بعد سبات..أم أن مشاعر الوداع التي رسمتها على صفيحة إنترلاكن حركت في نفسي كل مشاعر الوداع التي يختزنها صدري …فكانت صفحات أهلي ووطني من ضمن تلك الصفحات التي قلبتها رياح الغربة و الوداع…..
ابتعدت عن البحيرة …و الطيور المهاجرة… و السفينة المبحرة …وكل ما يذكرني بالغربة… ويحرك في صدري الحرقة…فأخذت أتجول في حديقة غناء…مترامية الأطراف…يصحبني في سيري…قطرات المطر …فهي الوحيدة التي تعرفني و أعرفها …و هي الوحيدة التي تواسيني…فكم نزلت على وجهي لتمسح أحزاني…و لتغسل همومي…و كم اختلطت مع قطرات تسللت من عيوني… فأختلط ماء العين المالح اللاذع مع قطراتها العذبة …فأزالت كل مكامن الحزن في نفسي… و هناك صديق آخر أسر برؤيته…و هو جمع من الزهور في زوايا عدة في أركان تلك الحديقة… تشاهدني من بعيد …فترسل رحيقها لتدخل في صدري السرور… أثناء سيري في ممرات هذه الحديقة أمر من بين الطيور فتتطاير… و أقبل على البط فإلى البحيرة تهرب…لكم العذر …فالغرباء دائماً في محل الخوف…وهم محل التهمة…رغم أنهم هم أكثر الناس خوفاً…و أكثرهم حاجة للأمن…
لقد دخلت المدينة…في وقت مبكر…وكانت خالية إلا من بعض الرسومات…والتي رسمت لأشخاص مختلفين لأهداف متنوعة في شوارع تلك المدينة…فكانوا باستقبالي…فسرتني صورتهم المعبرة…رغم أنهم أكثر الناس جموداً بالمشاعر…فكان تحيتهم تؤنسني…برغم أن نظراتهم صدرت من عين لا تعرفني…و من قلب لا ينبض لي أو لغيري…ولكن هل هناك أفضل من الابتسامة …فهي كماء عذب يصب في القلب….أو ينابيع تُفجر أنهار السعادة في الحياة…
حتى و لو كانت من إنسان قد جمدت حواسه…أومن تمثال قد أتقنت ابتسامته…إن الغريب يأنس بكل من ينظر إليه متودداً …ولو كانت نظراته مصطنعة…أو هي مصروفة إليه و إلى غيره…نظرت إلى هذا الذي نظر إلي و أخذ يلوح بيديه…فأرسلت إليه نظرات و أنا مسرور…وتبسمت بابتسامة واسعة ..فكأنني أجد إنسان عزيزاً أفتقده …نعم إنني أفتقد الابتسامة الصافية…النقية …الخالية من المجاملة …أو التي تقدم عن تقديم خدمة …أو ترسل عند إجابة على استفسار معين…و دعت ذلك التمثال المرح….و أبطنت له المحبة…فكم أدخلت السرور إلى قلبي ياتمثال…أضحك الله أنفك
لكن فرحتي لم تكتمل….فقد مررت من جانب تمثال آخر…فكان فيه من الكبر مافيه…و من الأعراض الشيء الكثير…فقد رفع رأسه معرضاً عني…فما ذنبي…لقد كنت أعتقد أن مثل هؤلاء التماثيل لا يفرقون بين الغرباء و أهل البلد…ولكن أخطأ اعتقدي …حتى التماثيل قد علمت أني غريب…فأعرضت بوجهها عني…و انقلبت باتسامتها عن وجهي….وكل ذلك لأني غريب…آه…ما أقسى الغربة…و ما أقسى النظرات التي ترسل إلى الغرباء..أو ما أشد حساسية الغرباء من مشاعر الآخرين…( روح منك لله …أنت وأنفك الطويل الذي يكاد أن يعلق بملابس المارة من السياح )
تأخذني قدماي في أزقة المدينة…و على طرقاتها المرصوفة بالحجارة…فتظهر مشيتي متعرجة…فأنزل من مرتفع عبر درجات ممتدة……وأمر من جانب قصور و دور فارهة…
قرع نعالي لا يهدأ…و خطواتي تنقلني إلى جسر ممتد طويل…أعبر فيه نهر جاري…قد زخرف بحواجز حديدية جميلة…و علقت بأطرافه فوانيس إضاءة طويلة…و على أرضية الجسر تنعكس صور المارة…وذلك بأثر قطرات المطر الهاطلة…
قدماي لا تتعبان من المسير..فوقتي محدود…و أهدافي محددة بدقة…الجمال استضفته في صدري…وفي أوقات خلوتي سوف أستمتع به…و الصور التي أختزنها في قلبي…سوف أستعملها عندما أقلب صفحات حياتي…
تبرز لي المباني الحديثة في أجزاء من تلك المدينة…ولكن ليست هي بغيتي…ولم تكن من ضمن برنامجي…فالحضارات الخراسانية لا تقدم و لا تؤخر عندي…فزهرة في طبيعة…أو واحة في صحراء قاحلة…أو منظر جميل من زمن غابر أهم ومقدم على كل السياحة الخراسانية الحديثة ..
مررت بجانب دراجات هوائية مصفوفة وبكثرة…فشحذتني قدماي أن استخدمها…و شحذتني همتي أن لا أركن لأتعاب أقدامي…أو أنزل إلى طلباتها…فالسفر هو مكان اكتشاف الهمم…و محل اختبار الصبر…استمعت لصوت همتي….فتجاوزت اختبار الدراجات بنجاح…و خاب أمل الأقدام بأن ترتاح…
مررت بجانب النهر العظيم…وهو يدفع الماء خلاله بقوة…فقد نزل من منازل بعيدة…فصوته أصبح ينادي و يصيح بالسياح أنني متواجد…و هل من مستمتع بهذا الجمال….
من على جسر ممتد من على النهر…نظرت من أحد أطرافه إلى معلم قد كان في قائمة المزارات التي في خارطتي السياحية…فهل حقاً هذا هو الهدف الأول أصله…و هل حقاً هذا الذي كان مكان حديث الزوار من الأعضاء…
لا أصدق…فأردت أن أتمعن…و أن أقترب…لعلي أصدق…أو تتضح الصورة أكثر…اقتربت فنظرت من خلال الحاجز الحديدي المزخرف…فأصبحت و كأني أسجن من خلف قضبان عن أمل من الآمال…أو أنني أحجز عن شيء يريد قلبي أن يصله و أن يستطلعه…
فلم تقف آمالي مع تلك الوساوس..بل تابعت لكي تعبر إليه آمالي…و تصله…فبدأت صورته تزهر…وبدأت ملامحه تتزين….وبدأ منظره يكمل…
اقتربت من الجسر الخشبي….و برجه الشهير….اقتربت منه وبان بشكله الذي يمتد بوسط النهر…فليس هو يمتد بشكل عادي مثله مثل الجسور الأخرى…بل أخذى منحني و بشكل كأنه يسير مع مجرى النهر…
عندما مدخله تجمع السياح من كل مكان…و اخذ الكل منهم يلتقط الصور التذكارية مع ذلك الجسر..فكأنهم وجدوه بمشقة …مثلما أنا وجدته بعد عناء طويل…وكثرة مسير…
دخلته من الجهة التي تقابل جهة البرج الثماني…فدخلت مدخله الخشبي المزين بالزهور…
فماهذا الجسر ؟ و ما قصته..فإليكم قصته مقتبسه من موضوع أختنا الفاضلة الغائبة الحاضرة / فتاة عربية… و سوف تجدون رابطه في أسفل الموضوع …و مكانته في أعلى قلوبنا… …تقول عنه (الجسر الخشبي Kapellbruecke : و يسمى بجسر الكنيسة تيمناً بكنيسة السانت بيتر القريبة و هي أهم و أجمل الجسور السويسرية, بنيت منذ قرون طويلة في القرن الرابع عشرة, و قد أحرقت أجزاء منها في أعمال ثورة أو شغب, لكن تم إعادة ترميمها لاحقاً و يمكنك تمييز الجزء القديم من الجسر بسهولة ( لون الخشب أغمق بكثير). و يقسم هذا الجسر الممتد على نهر Reuss المدينة إلى جزئين, المدينة الحديثة و في الجهة المقابلة المدينة القديمة . إذا نظرت للأعلى (لسقف الجسر), ستجد رسوم لقسيسين و رجال أثروا التاريخ السويسري ( أحد الرسوم كانت لوليم تل) و رسوم للوسيرن القديمة, و توجد كتابات تعلق على تلك الرسوم و لا أدري إن كانت آيات من الإنجيل أم لا, و قد نقشت في القرن السابع عشر, فكأن هذا الجسر متحف تاريخي في الهواء الطلق. ) انتهى كلام الرحالة العربية فتاة عربية..
هذا الجسر …هو لوحة خشبية جميلة…علقت على أطرافه الزهور… وحلقت من حوله الطيور …و زين سقفه بالقريمد الأحمر…فغدا كأجمل جسر…
أما من الداخل..فأعمدة مصطفة بشكل مميز…و من فوقها خيمة خشبية…و على أطرافه حواجز ناعمة…قد كتبت في بعض أجزاءها و عبر أنامل ناعمة ذكريات لفتيان وفتيات عربيات قد مروا عليه…فمنهم من سجل أيام شهر عسله…ومنهم من كتب أيام عمره…و منهم من كتب فريقه المفضل …
وأخشاب السقف و الأرضية و الأعمدة و الحواجز قد دهنت بدهان مضاد للرطوبة رائع….و للكتابات المتجددة مزيلة….
و قصت أطراف سقفه الخشبي بشكل مثلثات…فصارت كتحفة فنية جميلة تستطيع أن ترى معها المدينة كلوحة رائعة جميلة يحيط بها برواز خشبي منحوت فيه زخارف فريدة …
أما إذا نظرت إليه مع الجنب…فأنت ترى العجب…فالحسن قد أجتمع…طيور النورس في هدوء تسكن…وزهور تنتشر و لمن حولها تنعش و تبتسم…
و ألوان تزهو …و تتنوع …و تتشكل …وترسم في كل اتجاه لوحة الجمال و الحسن…
الناس عبر هذا الجسر يتجولون…فهم يغدون و يروحون…وكل همهم أن يلتقطوا الصور…فيشكلون منها و ينوعون…
فهذا يصور الجسر…وذاك يصور البرج…وآخر يصور ما عُلق من الزهر…ومجموعة يصورون فرادات…ثم يتجمعون ويصورون بشكل مجموعات…
و منهم من تجده قد اتكأ على أحد الأعمدة الخشبية…فأخذ يتأمل ماحوله من المناظر..فتارة ينزل رأسه فينظر إلى النهر الصافي و يستمتع بصوت جريانه…و تارة ينظر إلى السماء و كيف السحب تتشكل في سقفها فتتجمع ثم تفترق…فتارة تبرق و تارة ترعد…و تارة تتلون بالبياض و مرة أخرى بالسواد… تارة تهب منها النسمات و تارة تنبعث منها رياح عاتيات..و ينزل بنظره إلى ما بين السماء و الأرض …طيور تحلق…وطائرات تحوم …و شمس تظهر و أشعة تزور ثم تغيب…و ليل يقبل ونهار يدبر…
ثم يأخذه تأمله بعيداً …حيث المباني المصطفة على الجانب الآخر للنهر…حيث تشكلت مجموعة من المباني منه القديمة و الحديثة…فالقديمة تحاول أن تتماسك أمام المد الحضاري الحديث…وتحاول أن تصمد أمام التصاميم الجديدة…
و تختلف و تتنوع المباني…ولكلٍ عشاقه…و لكلٍ زواره…و لكن يبقى للمباني التاريخية أثرها الجميل…و رحلة للنفس معها تطول…و مكان للتأمل خصب ينموا فيه و عبره حس جديد…
عندما تقف متأملاً عبر ذلك الجسر…تمتزج لديك الصور…القصور…والأبراج…و الزهور…والأنهار…
إن الجمال في كل مكان من حولك …إن أبعدت النظر فهناك منه الكثير…و إن اقتربت فلديك أكثر…
فهذا البرج الثماني يستقر في وسط النهر…و على أطرافه تداعبه الأمواج القادمة بقوة…فهي تطوف حوله…ثم تقبله …و تبتعد عنه مجبرة…حتى تحين أمواج أخرى….و قبلات أخرى…وأزمنة أخرى…
ولعل القارئ يتساءل عن هذا البرج…و تشتاق نفسه لمعرفة تاريخه…فإليكم قصة هذا البرج…عبر كلمات كتبتها أختنا الفاضلة / فتاة عربية عبر موضوع عن سويسرا باسم رحلة فتاة عربية…
تقول فتاة عربية ( برج المياه (المثمن الشكل): وهو البرج الملاصق للجسر الخشبي, و رمز مدينة لوسيرن, فعادةً ما تكون جزءاً من الصور الموجودة على البطاقات التذكارية في المحلات. بنيت في أوائل القرن الرابع عشرة, حيث كانت مقراً للسجن و التعذيب. )
و يتصل البرج…بالجسر الخشبي…حتى تكون منهم منظر بهي…يجذب الناظر من بعيد إليهما…و يسبح القريب في التأمل بهما…
خرجت من الجسر لأطوف في أجزاء المدينة…و لأستمتع ببقية معالمها…ودعت الجسر …و الزهر …و الطير…و النهر …و سحت مع السياح…فابتعدت قليلاً …قليلاً…حتى صارا من الذكريات…
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر".!!,,