بدايةً أعتذر عن التأخير غير المقصود...والسبب هو أنه قد تم انتدابي إلى مهمة رسميّة صعب خلالها أن أكتب شيئا...وأنتم تعلمون كيف تحتاج الكتابة إلى مكان مناسب...ثم إنني لم أكن أملك حاسوباً يساعد على تحرير المشاركات والصور...ولا زلت في ثنايا هذه المهمّة الرسميّة إلا أنني استطعت وبشق الأنفس...تجهيز هذه القصاصة....فها هي:
القصاصة التالية: في اليوم الأول
ما هذا؟ أين أنا؟
أرى فوق رأسي شمساً حارقةً شديدة التوهّج...ترسل أشعةً...لا ...بل سهاماً ناريّة تشوي الأجساد وتحرقها...
ثم ما هذه الصحراء الممتدة على مرمى البصر؟؟ رمالٌ في رمالٍ في رمال..ما كان ينقصنا إلى وجود القبطان عمر ليرفع عقيرته حادياً: "كثبان الرمل تحيط بنا... هذي هي الصحراء!!"
ريحٌ سموم...وجفافٌ في الحلق...أريد ماء....أريد ماااااااااااااء
ما الذي أتى بي إلى هنا؟؟ هل هي عمليّة خطفٍ كبيرةٍ صاحبها فقدان وعي؟؟
أم هي من أفاعيل أفعى الكوبرا؟ -أعني خبيثة المطار بالطبع...
ثم أستيقظ فجأة والعرق يغمرني
سقف الغرفة مظلمٌ ولكنّه ظلام غير دامس....
ما هذه الحرارة القاتلة؟
لو كنتُ في أدغال أفريقيا لأرجعتُ الأمر إلى الملاريا...لكننا في عمق المناخ الاسكندنافي...
قمتُ أتلمّس باب الحجرة باحثاً عن مفتاح المكيّف....لأتذكّر أنه لا يمكنك أن تجد مكيّفاً في دولٍ لا تصل درجة حرارتها إلى ٢٠ درجةٍ مئويّة...
وبعد عودة الدماء إلي الدماغ وجريان منسوبها بشكلٍ طبيعي تبيّن لي أن نظام العزل في غرف الفندق ذو كفاءة عالية...وهذا ينطبق على جميع المساكن والنُزُل والشقق في هذه الأصقاع...والسبب في ذلك واضح:
تخيّل أيّاماً تصل درجة الحرارة فيها إلى ٣٠ تحت الصفر وليس فيها مثل هذا النظام العازل داخل البيوت؟ وبعبارة أبسط: تخيّل نفسك داخل ثلاجةٍ كبيرة لحفظ اللحوم....هل كنت تحتمل هذه البرودة الشديدة؟
حسناً...فالأفتح النوافذ...أووووه كلا....ما هذه النوافذ السخيفة؟ أنها تفتح بشكل كاملٍ وليس بشكل جزئي...مزلاجها سهل الفتح...مددت عنقي أتأمل المنظر...أوووه ليس هناك أية حواجز على الإطلاق....
بمعنى: أن الخطر كبيرٌ على ولدي فارس....بإمكانه أن يفتح النافذه...وعندها يمكن -والعياذ بالله- أن يحصل له ما حدث لhumty dumty في الأغنية الهزليّة الشهيرة...أعوذ بالله...ما هذه الوساوس البغيضة؟
إذن: هذا الفندق اللعين لا يصلح لمن كان لديه أطفال ويخشى عليهم...خصوصاً وأننا نسكن في الطابق الخامس...واضطررت إلى أن أفتح النوافذ عدة دقائق فحسب...ثم أغلقتها بعد أن خفّت وطأة الحرارة...
الكل نائم....ويبدو أن الفجر يطرق الأبواب....لن أستعجل هنا فأصف الأجواء ولا مواقيت الصلاة...لأنني سأرجئ الكلام عنهما إلى قصاصةٍ لاحقة -بإذن الله تعالى-...
شرعتُ في تعليق المنشفة...ورويداً رويداً بدأت أشعر بتدفّق الحرارة من تحت قدميّ...هل أنا واهم أم أن الأرض حارةٌ بالفعل؟؟....لحظات اختبار وترقّب...كلا: إنها حارّةٌ بالفعل...بل تستطيع أن تقول: حارّة جداً...هل نحن تحت بركان؟؟...قفزت كالملسوع إلى المغطس...وخبّأت هذا التساؤل في ذاكرتي...علّي أجد له جواباً في الصباح الباكر...
...
..
.
مرحباً بكم من جديد...ها هي إشراقةُ صباح جديد:
إذا طلعت شمس النهار فإنها... أمارة تسليمي عليكم فسلّموا
سلامٌ من الرحمن يجمع بيننا...وروح وريحان وفضلٌ وأنعم
ها هي شمس أوسلو تُشرق عليّ للمرّة الأولى...والمنظر من هذا العلو رائع بحق...وأصوات العصافير تُضفي على المشهد تأثيراً ساحراً...فاللهم لك الحمد على آلائك وإنعامك...سبّحت لك السماوات في علاها...والأشجار والنبات...والطيور وكلّ شيء...{وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم}.
استيقظوا استيقظوا...القبطان سموليت يناديكم للحضور إلى ظهر السفينة...إلى الطعاااااام...
تجهّز الجميع للنزول إلى بهو الفندق...وتسابقنا في النزول إذ لم يبقَ على (البوفيه المفتوح) سوى نصف ساعة...دخلنا...فإذا بالهدوء يلفّ المكان...ولا تكاد تسمعُ سوى مداعبات الأشواك والسكاكين للأطعمة...تأمّلتُ أمامي في أصناف الأطعمة...فإذا هي تشكيلةٌ متنوّعة منها 65% مما لم تعْتَدْهُ أعيننا...بالتأكيد هناك الكثير من اللحوم...لكننا بطبيعة الحال تجنّبناها كلّها...لا نريد أن نأكل (رجساً) دون أن ندري...وهذه التشكيلة غنيّة جداً بالأجبان والألبان والحليب والزبادي والمنتجات البقريّة بشكلٍ عام...خصوصاً الحليب والألبان: أنواعٌ وأنواعٌ لا تكاد تُحصى...بالفعل: فالدول الاسكندنافيّة غنيّة بالمواد الطبيعيّة...
أما المربّى...فلم أذق في حياتي كلّها: طولها وعرضها..ألذّ من هذه المربّى...قليلٌ من المربّى بالزبدة تحسّ بأنك في عوالم أخرى...
هناك الفاصوليا الحمراء...الكورنفليكس بشتّى ألوانه وأنواعه...
أما الخبز...وما أدراك ما الخبز؟؟: عندما تصل إلى النواحي الاسكندنافيّة انسَ تماماً الخبز والسامون والروتي العربي والأفغاني والتميس واللبناني...سامونهم عبارة عن: قطعة قرميد أو طابوقٍ كبيرة...يتمّ قطعها بسكّين منشاري...فتقوم بقطع شرائح تضعها في صحنك.
إن لم تخنّي الذاكرة فهناك ما يُشبه خبز (البارجر) صغير الحجم جداً...
أخذنا من (كل بستانٍ زهرة) كما يُقال...ثم اخترنا مقاعد بالقرب من زجاجاٍ مطلّ على الحديقة التي أرفقنا لكم شيئاً من صورها...وما أن استقرّينا على الكراسي حتى جاءنا (الشيف) وهو آسيوي الجنسيّة...والآسيويّون بشكلٍ عام يفهمون احتياجات من كانوا من بني قارّتهم..(احنا ولاد حتّه واحده!!) سواءٌ كانوا شرق أوسطيين...أم هنود...أم ماليزيين...أم غير ذلك.بالطبع قد أدرك أننا من العرب العاربة!! وعرض علينا أن نقدّم صحناً من البيض المخفوق والذي يُسمّى الأومليت...أكّدنا عليه عدم إضافة أية نكهات من الـــ(wine) الخمور...فَرَاغَ إلى المطبخ –الرقيب اللغوي:أسلوب قرآني مذكور في آية {فراغ إلى أهله فجاء بعجلٍ سمين}-دقائق عدّة وعاد بذلك الصحن الشهيّ...
وعندما وضع الصحن أمامنا مال إلى الأمام وقال بلهجته الاستقراطيّة: حيث أنكم ضيوفٌ على هذا البلد فإنه يسرّنا أن نقدّم لكم مشروباً خاصّاً سوف يعجبكم كثيراً...تبادلنا نظرات الريبة وعدم الفهم...فإذا به يضع أمامنا زجاجات بها سائلٌ رقراق وشفاف...والزجاجات مغطّاةٌ بقماشٍ وسدّادةٍ للقنّينية كتلك التي نراها في أفلام القراصنة...والتي تُرمى في عرض البحر وبها رسالة استغاثة!!...
صرخنا قائلين: أهذا خمر؟؟؟
فأجاب: No no sir!
أنا أفهم أنكم لا تشربون الخمور وتتجنّبوها...هذا مشروب مياهٍ غازيّة...فخر الصناعة النرويجيّة...سوف تعجبكم جدّاً...
قلنا: الله يستر...فتحناها...وبدأنا الشرب...أووه...ما هذه المياه؟؟ وما هذا الطعم؟؟ أقرب ما يمكن قوله أنه مياهٌ بالصودا؟؟ كانت تلك المرّة الأولى والأخيرة مع المياه الغازيّة.
اسألوا أي عربي إذا انتهى من أكله...ماذا ينتظر بعدها؟؟
الجواب بكلّ تأكيد: شرب الشاي.
وهكذا ترونا قد عدنا إلى البوفيه للبحث عن الشاي...كما هو متوقّع: ثمة ماءٌ ساخن...وأكياس (ليبتون)...وقد قلت (ليبتون) من باب التقريب وإلا فإن شركة الشاي هنا ليست ليبتون ولا الربيع ولا أيّاً مما نعرف...هناك السكّر بأنواعه.
لنقف هنا وقفة: أما الماء فهو ماء....وأماالسكّر فهو بأنواعٍ مختلفة تتناسب مع الرغبات...وأما الشاي –وهنا وجه الغرابة- فبنكهاتٍ مختلفة وغريبةٍ حقاً...شاي بنكهة الفراولة...شاي بنكهة الفواكه...بنكهة المانجو...وهلمّ جرّاً
وأما الشاي الذي أعرفه وتعرفونه فيسمّونه breack fast...ترى لماذا تعلّق هذا النوع من الشاي بهذه الكلمة التي تعني أصالةً وجبة الإطار؟؟ سأحاول البحث عن جواب هذا السؤال يوماً ما.
هنا نأتي إلى النقلة النوعيّة في البرستيج والإتيكيت:
أولاً: كل أغلفة الشاي (أكياس الشاي) مربوطةٌ بخيط في نهايته قصاصةٌ مربّعةعليها اسم الماركة...أليس كذلك؟؟ الجديد هنا أن نقطة اتصال الخيط بالمغلّف الذي يحوي على بودرة الشاي مبروطةٌ ربطاً وليست مدبّسةٍ بدبّوسٍ كما هو الشاي عندنا..والسرّ في ذلك أيها السادة أن هذه القطعة الحديدية تتأكسد وتتفاعل كيماوياً مع الماء الحار...ومع تكرار هذه العمليّة عشرات المرّات تكون سبباً في أمراضٍ مزمنةٍ وسرطانات –عفانا الله وإياكم منها-...فلعل هذا يكشف جانباً من انتشار الأمراض المزمنة في دولنا العربيّة حيث لا رقيب ولا حسيب على المنتجات من الناحية الصحيّة.
ثانياً: هناك أداةٌ تشبه الملعقة...لكنّها مخرّمة (أو مخرّقة كما هو في العربي الفصيح)...يمكنكم تخيّل الأداة التي يمسكون بها قطع السكّر...بدلاً من الحديديتين المسطّحتين في آخره هناك ملعقتان متواجهتان بحيث إذا انطبقتا تشكّلان دائرةً كاملة.
الفائدة منها أنك تضع كيس الشاي بينهما ثم تغمسه في الماء الحار بدلاً من الغمس اليدوي الذي تقوم به لأكياس الشاي...وتذكّروا أن تلك الملاعق مخرّقة بحيث تسمح بدخول الماء إليها...لا أدري إن كنتُ قد وُفّقت في الشرح أم لا.
لن أتحدّث عن نزلاء الفندق...يكفي أن نقول أنهم نراوجة.
لنقلب صفحة المطعم جانباً...ثم لننتقل إلى وصف بقيّة أركان الفندق...لا أذكر أنني رأيتُ مسبحاً فيه...هناك صالة ألعابٍ رياضيّة gim ...ولم يكن لديّ الترف لأضيّع وقتي فيها...كان هناك صالة ألعابٍ للأطفال...ومثل هذه الصالة وجدتها في عددٍ من فنادق النرويج...جميلٌ أن تضع أطفالك في حجرةٍ ليسرحوا ويمرحوا...ويلعبوا و(يتنطّطوا) دون أن تخشى عليهم.
ابنتي حنان...ما شاء الله عليها...من النوع الاجتماعي جداً...وهي قادرةٌ على تكوين الصداقات بسرعةٍ كبيرة...ضعها في حديقةٍ وانتظر ثلث ساعةٍ ستفاجأ بعدها بجيشٍ وراءها وهي تقول: بابا...انظر إلى أصدقائي الذين تعرّفتُ عليهم.
كذلك ما حدث لها في غرفة الأطفال...قد تعرّفت على نراوجةٍ ولعبت معهم...وعجبي:كيف استطاعت التأقلم والتفاهم على الرغم من التباين اللغوي الكامل؟ ولكنها لغة البراءة...لغة الفطرة...لغة الطفولة...والتي تتجاوز كل الحدود وتخترق كل الحواجز المصطنعة...تلك اللغة العالميّة.
لنخرج إذن لنتعرّف على محيط الفندق.
جلسةٌ ما أروعها:
محاولات تقريب وتصوير:
والبحر من خلفنا:
فأين المفرّ؟؟
أظنّ أنه قد حان الوقت للذهاب إلى مركز المدينة...والتعرّف عليها عن كثب....ولكن: تلك قصاصةٌ أخرى...
بقلم: طائر النور...
Stop!!!
-ماذا أيها المخرج؟؟
*أشعر بأن هناك خللٌ في السيناريو....هناك فراغ دستوري..أ...أعني أن هناك ثغرةٌ في الكلام...دعني أقلب صفحات السيناريو...
عن ماذا يتكلّم سعادة المخرج؟؟
*أها...هناك خللٌ قاتل...بل اثنين: الأوّل أنك لم تسأل قريبك عن البراكين الأرضيّة في الحمام...والثاني: أين قصّتك مع الماء في الفندق؟؟ ألم تكن عطشاناً وأيقظك العطش من النوم؟
أوه بالفعل...لقد نسيتهما...وسأذكرهما على عجالة:
أما البراكين: فقد ذكر قريبي أنها أساليب حديثة لتسخين الأرضيّات وهي مفيدةٌ جداً خصوصاً في الشتاء القارس...وهذا الأسلوب يساعد مرضى الروماتيزم ويجنّبهم هذا المرض مبكّراً.
وأما الماء فكان لي معه قصّة: من المشاهد المألوفة في أيّ فندق أن تجد عدداً من قوارير الماء وشيئاً من السكر ومستلزمات القهوة والشاي...وغلاّية...
لكني لا أرى ماءً هنا؟؟ ليس سوى كوبين فارغين...
هممتُ بالنزول من الغرفة لشراء الماء...وعندما علم قريبي ذلك ضحك كثيراً ثم قال لي: اشرب من الحمّام!!
من الحمّام؟؟ أتمزح؟؟؟ أريد أن أشرب ماءً نقيّاً
فقال لي: حتى رئيس الوزراء هنا يشرب من ماء الحمّام...اذهب وتناول كوباً وقل لي رأيك...
استقبحت الفكرة...وفتحت الصنبور..فإذا بماءٍ مثلّج ينساب من الفتحة....ملأت الكوب وشربته في الغرفة...
أقولها وأحلف بالله غير حانث....ما طعمت ولا ذقتُ أبداً أبداً أبداً...ألذّ ولا أروع ولا أشهى ولا ولا ولا (استحضر كل أفعال التفضيل هنا)...من هذا الماء...ووالله قد شربتُ من الجداول والينابيع وغيرها...فما وجدتُ ماءً يعدل هذا الماء إلا ماء زمزم لفضيلته وقداسته.
وأكمل قريبي قائلاً: النرويج تعدّ أغنى دولةٍ في المياه العذبة في العالم...لذلك فإنهم لا يستعملون إلا الماء القادم من الشلالات والأنهار....ولن تجد ماءً معدنياً أو مكرّراً أبداً.