عبرنا القنطرةَ الرومانية بقرطبة , والتي يقف في وسطِها تمثال القديس رافائيل وتحت قدميه الشموع, المحاطة بالشرائط الحمراء.
نصل إلى الطرف المقابل لرصيف منتزه مسجد قرطبة الجامع حيث ينتصب برجٌ أصبح متحفا, لا يزال يحمل اسمه العربي: برج القلعة الحرة . ندخل متحف الحياة الأندلسية أو متحف الثلاث ثقافات, الذي تشرف عليه مؤسسة روجيه جارودي, بعد إعلانه أثرا في 1931, والذي بدأ دوره كمتحف عام 1987 ميلادية, وهو متحف يعبر عن السماحة التي غمرت المدينة حين تعايش المسلمون واليهود والمسيحيون فيها.
عند المدخل نتسلم سماعةَ رأس, تختارُ من بين أربع لغات ـ الألمانية, الإنجليزية, الفرنسية, الإسبانية ـ تعليقا يصاحبُك كلما دخلت غرفة من غرف المتحف. تدخل المكان, وتضغط الزر, فينساب التعليق الشارح بالموسيقى والمؤثرات السمعية والبصرية لما تراه أمامك من مجسمات تحكي لك نظام الري الذي ابتدعه المسلمون في أوج ازدهار الحضارة الأندلسية, وصور الحياة في قصور الخلفاء, ومدينة الزهراء, ومجالس الحريم, ومسامر الأمراء, ورحلات القوافل, ومعمار البساتين والمنازل. حتى قصور الحمراء في غرناطة, يضم متحف الحياة الأندلسية نموذجًا كاملا لها, تستطيع أن تلقي عليه نظرة طائر, وأن تنظر من خلال نموذج مقطعي إلى المصلين في مساجدها, مثلما تستمع إلى خرير المياه في نافورتها التي تحرسها الأسود.
حين نصل إلى سقف البرج يمنحنا الارتفاع فرصة مشاهدة المدينة من عل. السطح يرفرف عليه علمان, للمملكة الإسبانية, وقرطبة. ويميز علم قرطبة شريط أبيض ربما يرمز للسهل ونهر الوادي الكبير, يقف عليه رجل يروض أسدين, فيما يكتمل العلم بشريطين باللون الأخضر أعلى وأدنى الشريط يرمزان للمزارع الخضراء التي تحيط قرطبة شمالا وجنوبًا. بينما تبدو المآذن التي تحولت إلى أبراج لحمل الأجراس واضحة, في نمط متكرر, شمله التغيير القسري للوظيفة دون أن ينجح في تغيير الشكل المعماري الجمالي.
لكن الغرفة الثانية في متحف الحياة الأندلسية ويسمونها غرفة الفلاسفة, هي التي عبرت بحق عن روح قرطبة الخالدة التي صعدت بها لتكون عاصمة للحضارة الأوربية في ذلك الزمان. هاهو الملك ألفونسو العاشر جالسا أمام ثلاثة من أعمدة التنوير في المدينة; ابن عربي, وابن رشد, وابن ميمون. ويأتيك عبر الميكروفون صوت الأربعة في حوار فلسفي حول كُنه الحياة, ومعانيها. فالمسلمون مجسدون في ابن عربي وابن رشد, واليهود حاضرون في شخص ابن ميمون, والمسيحيون يمثلهم الملك ألفونسو الحكيم, هم شهود القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين, الذين حملوا للعالم الرسالة الأندلسية, للحرية والتسامح والإبداع الفني والتقني في هذه العصور الحضارية الذهبية: يقول ابن رشد, بالإنجليزية, فلسفتنا ليست ذات جدوى, إن لم تكن قادرة على الربط بين ثلاثة, حاولتُ أن أجمع بينها في تجانس العلم والدين, العلم المؤسس على التجربة لاكتشاف الأسباب, والحكمة التي تنعكس على الغرض الذي يرمي إليه كل بحث علمي لجعل حياتنا أكثر بهاء, والكشف الروحاني للقرآن الكريم الذي نخلص به إلى مرامي حياتنا وتاريخنا. فيما يردد ابن عربي: الله توحُّدٌ. توحد العشق والعاشق والمعشوق, وكل عشق هو رغبة في التوحد. وكل عشق, بإرادتنا أو دونها, هو تقرب لله.
في القلعة الحرة وصلت إلى مغزى قرطبة; قيمة الحرية, التي وسِمَتْ سماء المدينة في أزهى فترات حياتها, حرية كانت تسمح لأبي بكر بن ذكوان قاضي القضاة بقرطبة رفض تسليم أموال الأوقاف لأبي الحزم ابن جهور, رأس دولة بني جهور, كما أنها سمحت لابن حيان بانتقاد أمراء الطوائف دون أن يمسه سوء منهم. وزان قيمة الحرية قيم أخرى كطلب العلم, الذي بقيت أدواته وعلاماته حتى اليوم في المتحف, من مباضع التشريح, وأساليب الملاحة, ووسائل الجغرافيا, وعادت الأذن تسمع ـ حتى عبر لغة أخرى ـ مفردات اللغة العربية في قرطبة.
النص بقلم: أشرف أبو اليزيد
مجلة العربي
( بتصرف)