كـبـار شـخـصـيـات الـمـوقـع الملف الشخصي تاريخ التسجيل : 06 / 08 / 2007 رقم العضوية : 285 الإقامة : آخر حدود الوطن المشاركات : 498 التقارير : 2 الجنس : ذكر الحالة : | منازل قرطبة ... بوح الشرفات | | وصلنا إلى إحدى بواباتِ قرطبة المُسَمَّاةِ بوابةُ أشبيلية. وهي بوابة ضخمة, مفتوحة, وآمنة, أغرت أسرابَ الحمام لتهجع على جدرانها في سلام, بينما تعبرها الفتيات على أجنحة الضحكات إلى مقاعد الدراسة, وتمر المياه أمامها في دعةٍ ترسم على وجهها صورة لحجارتها. يداعب الأطفال صفحة الماء بالبالونات والكرات. المدينة في عصورها القديمة كانت تبدأ هنا, لكن قرطبة اليوم أصبحت مثل بستان زيتون, في قلبه بضع شجيرات تمثل المدينة القديمة, بينما باقي الأشجار مدينة عصرية تحاول أن تستلهم عمارة المدينة القديمة, فتنجح أحيانا, ولا تكاد تُخفِق إلا قليلا. فلا تزال المنازل الجديدة تستلهم المدخل الأندلسي, صغر أم كبُر. وهو مربع أو مستطيل تجده بعد البوابة الخارجية وقبيل المدخل للفناء الداخلي. وحين نمر ليلا سنجد بعضَ الجلوس فيه, كأنهم في شرفة أرضية تطل على الحياة, لا يبخل القرطبيون في تزيينها وإعدادها, ودائما برسوم خزفية نباتية, وألوان ساخنة وحية, وأصيص ورد, ومقعد أو أكثر. أما الطوابق العلوية فقد جعلت الحديقة في الشرفات, ومزجت بين عصرية الشقق التي تفرضها المساحات, وتقليدية التصميم الذي يرتاح إلى إقامة الحدائق أين يولَّى البصر, حتى أنهم ينطلقون إلى الحدائق التي تتوزعها الميادين القرطبية, في الأمسيات, وكثيرًا ما ستجد فتيات وشبانا يتسامرون, وكبارا في السن يتنزهون بمفردهم أو مع أحفادهم. ما إن تعبر بوابة أشبيلية حتى تدخل تاريخ العمارة الأندلسية مجسَّدةً في منازل قرطبة: حارات ضيقة, بيوت لا تعلو سوى طابقين على الأغلب, وأسماء يتردد صداها منذ ألف عام: نُزُل بغداد, فندق أُمَيَّه, مطعم البيت الأندلسي, وبعض الأبواب يحمل أسماء أعلام عرب أندلسيين, كالناصر, وابن رشد, بحروف لاتينية, وجرافيكية بصرية كوفية على الجدران يضع القرطبيون أصص الورود فيما يمكن أن نسميه حدائق قرطبة المعلقة. الزهور تصافح العيون, في بهو المنازل, وفوق البئر القديمة, وعلى الجدران, وداخل الشرفات, وبالحدائق أمام المنازل, ومن لم يغرسْها حية رسمها على الطاولاتِ حينا, والبوابات حينا, وموزاييك الأرضيات والدَّرج والأسقف والجدران أحيانا. وهو ما لمحناهُ في المنزل الأندلسي, وشاهدناهُ في البيت الهندي, ورأينا بعضه في المعبد اليهودي. ومن أهم ما يميز منازل قرطبة عنايتها بالاستفادة من المساحة, مهما صغر المكان, ولعل أهمية هذه المنازل في الأحياء المحيطة بالمسجد الجامع في قرطبة, أنها تبقى شاهدة على تراث عتيق عريق, بجدرها البيضاء, وحدائقها المعلقة, ونظافتها من الداخل, وأشجارها التي تعد جزءا من نسيجها الداخلي, كشريان تجري به دماء من طيور وزهور في أهم مكان بالمنزل; الفناء. وللبيت القرطبي باب خشبي كبير, ونوافذ قليلة العدد, بقضبان حديدية مطلية باللون الأسود, تطل على الطريق الضيقة, فيما عدد النوافذ المطلة على حديقة المنزل أكبر, وتكاد تكون مفتوحة طوال الوقت, وتستخدم الأدوار العليا غرفا للنوم, أما الطوابق الأرضية فهي للمعيشة وإعداد الطعام. ويوجد في ركن من الأبواب الخشبية, أو بإحدى ضلفتي الباب, مداخل أصغر, ربما للتواصل بين من هو داخل البيت ومن هو خارجه دون فتح الباب بالكامل, حفاظا على حرمته, أو لخروج الأطفال ودخولهم. وتتضح في هذه البيوت مثاليتها في الاستغناء عن تعقيدات الحياة, بأنها تكاد تكون مكتفية بذاتها, من حيث جلب المياه عبر البئر, أو الانتفاع بالثمار, أو تخزين الغلال, وغيرها من الوظائف التقليدية التي لا تتجاهل طبيعة الروح الشرقية في الحفاظ على أهل البيت, دون أن يشعروا أنهم في فضاء مغلق, بل حديقة ملآنة بالنافورات, والبحيرات, مهما صغرت, والنباتات, مثل القرنفل والياسمين, وأشجار النخيل والليمون والنارنج. ويساعد صغر صحن المنزل القرطبي على الحفاظ على درجة حرارته, وكذلك حمايته من البرودة, وتتراص البيوت جنبا إلى جنب, كأنها فريق من المؤمنين يحمي بعضه بعضا. كما يوجد في البيوت الكبيرة أكثر من فناء, ولذلك سهل على القرطبيين اليوم تحويل هذه البيوت إلى مشاريع تجارية مع الحفاظ على بنائها الأصلي, وترميمها, خاصة أن كل المواد المستخدمة في هذه البيوت التقليدية من البيئة المحيطة. ويتم تبليط الأرضيات بالحجر أو الرخام, أو بلاطات دقيقة من الموزاييك, وتتم حماية الفناء بغطاء علوي من النسيج, أو بزراعة كروم العنب. وللمنزل سطح من جزأين, أحدهما منحدر مغطى بالقرميد, لحمايته من المطر, والآخر أصغر, وهو لتجفيف الملابس, وأيضا لنباتات الزينة, وفيما عدا لون القرميد الأحمر, فإن الطلاء الأبيض هو عنوان البيت القرطبي من الداخل والخارج معًا. ولبعض غرف النوم سقف مرتفع يسمى القبة وتستخدم الفخاريات وقطع الصيني في تزيين الغرف الأخرى, وفي غرفة الاستقبال لابد من أن يوجد مقعد كبير على الأقل, مؤثث بالحواشي, مع أثاث مريح له أكثر من هيئة. النص بقلم: أشرف أبو اليزيد
(بتصرف) |