بيروت- من جوني طانيوس |
يتميز لبنان بالعديد من المظاهر الحضارية والتراثية، تلك التي يقصدها السائحون، في رحلاتهم المنظمة إليه، هذه المظاهر موجودة منذ سنوات طويلة مضت، وتشير إلى المكانة التاريخية للبنان عبر عصور طويلة مضت.
ورغم ان لبنان عرف من خلال تاريخه الحديث، والذي تبدو فيه الثقافة والفن أكثر حضورا، بالاضافة إلى الأحداث التاريخية المتعاقبة، تلك التي مازال لبنان يعيش تحت وطأتها.
وبعيدا عن الأحداث السياسية سنأخذ القارئ الكريم في رحلة تاريخية عبر آثار ومشاهد وأبنية ومغارات لبنان كي يتعرف على الوجه التاريخي الاخر من هذا البلد، وذلك عبر فصول «عجائب لبنان السبع».
«... أنا شمعة على دراجك بعلبك». هكذا غنّت «العملاقة» فيروز وتغنّت بقلعةٍ تختزن «ذاكرة» لبنان الذي تعاقبت عليه منذ ما قبل الميلاد حضارات بقي «أثرها» في آثار تشهد على ماضٍ سحيق لا يزال... في «عزّ الشباب».
قلعة متجذرة في التاريخ، تُعتبر من روائع العالم القديم، ومن أكثر الآثار الرومانية عظمة، وتشكل مرآة لماضٍ ممهور بـ «ختم العزّ» ويتعانق فيه الوحي الديني والهندسة في تناغم متكامل.
بعلبك، «قبلة الدنيا» او «مدينة الشمس»، تطلّ كـ «الأميرة» التي لا تنام والتي تفاخر بإرث عظيم ... تستوي فوق هضبة تعلو عن سهل البقاع الشمالي وتنام على أمجاد غابرة قسم كبير منها لم يستطع المؤرخون والباحثون والمنقبون اكتشافه.
تشكل بعلبك أهمية حضارية و«ثروة» تاريخية ومكانة دينية جعلتها تتقدّم على باقي المدن اللبنانية وحجزت لنفسها موقعاً رائداً على خريطة السياحة العالمية (يقصدها سنوياً ما لا يقل عن 120 الف سائح) بعدما «توّج» ومؤرخون قلعتها التي ألهمت الشعراء واطمعت الفاتحين وجذبت الباحثين، على انها من بين المعالم التي تستحق ان تكون من عجائب الدنيا السبع، هي التي تضم «حجر الحبلى» وهو أكبر حجر منحوت في العالم.
بعلبك اسم سام قديم مركب مشتق من السريانية «بعل بقاع»، والبقاع هو السهل الواقع بين سلسلتي جبال لبنان الغربية والشرقية والواقعة فيه مدينة بعلبك. وقد سميت نسبة الى إله الشمس بعل، لذا اطلق عليها لقب «مدينة شمس». وعندما احتلها الاغريق العام 332 ق.م عرفت حينها بمدينةHeliopolis نسبة الى Helios إله الشمس لدى اليونان.
تقع بعلبك من الناحية الاستراتيجية على بعد 85 كيلومتراً الى الشرق من بيروت فوق أعلى مرتفعات سهل البقاع الشمالي.
وكانت تشكل محطة رئيسية على مفترق عدد من طرق القوافل القديمة التي كانت تصل الساحل المتوسطي بالبر الشامي وشمال سورية بشمال فلسطين. وقد استفادت عبر تاريخها الطويل من هذا الموقع المميز لتصبح محطة تجارية مهمة ومحجاً دينياً مرموقاً. فكان أن حوّل الرومان مزاراتها المتواضعة الى قبلة تستقطب الحجاج من جميع مناطق الامبراطورية الرومانية.
تاريخ القلعة
هناك اختلاف حول الزمن الذي بنيت فيه قلعة بعلبك العظيمة. ويقال انها تعود الى عصر سليمان الحكيم. وأول ما عرف من تاريخها الصحيح زمن استيلاء يوليوس قيصر عليها في أواسط القرن الأول قبل الميلاد. وفي أيام أغسطس كان فيها حامية رومانية كما تشير النقوش على حجر باب أحد الهياكل. وتبلغ استدارة القلعة حوالي 5 كيلومترات.
ملك الرومان المنطقة في أواسط القرن الأول قبل الميلاد. فأنشأ أغسطس مستعمرة بعلبك عام 15 قبل الميلاد.
ونظراً لأهميتها على أكثر من صعيد اقتصادي وديني، فقد أسس لمشروع عظيم يجعل من بعلبك واجهة دعائية تبرز صورة روما وعظمتها وقدرتها.
كان ذلك جزءاً من سياسة الدولة في ترسيخ السيطرة الرومانية على المنطقة. وكان من أبرز نتائج تلك السياسة ان ارتفعت معابد بعلبك العملاقة. وقد استمر العمل في بناء معابدها زهاء ثلاثة قرون ونيف من الزمن وتعاقب على تحقيقه وتمويله عدد لا يستهان به من كبار أباطرة الرومان.
قد تكون معابد بعلبك رومانية الشكل والزخرف. بيد أن من يمعن التدقيق في تصاميمها وبعض تفاصيلها لا بد له من ملاحظة الكثير من التأثيرات السامية المحلية عليها. ومما لا شك فيه أن تلك التأثيرات كانت ناجمة عن تدخل مباشر من الكهنوت البعلبكي في التخطيط كي تتوافق البنى الجديدة مع متطلبات العبادة المحلية، لا سيما أن الرومان كانوا يحرصون على عدم استدعاء السكان المحليين في المسائل الدينية. فـ «جوبيتر» الروماني لم يكن أكثر من غلاف لـ «حدد»، رب الرعود والبروق المحلي، و«الزهراء» الرومانية لم تكن الا وجهاً من أوجه الإلاهة الأم السورية، وكذلك «عطارد» الذي لم يكن الا صورة لإله بعلبكي شاب كان يهيمن على الزروع والقطعان التي كانت تشكل ثروة بعلبك في تلك الأيام.
وتقسم قلعة بعلبك إلى عدة مواقع أثرية:
* الرواق: هو مدخل الهياكل القديم الحقيقي، يعلو عن سطح الأرض الخارجية ثمانية أمتار وهو مستطيل الشكل طوله من الشمال إلى الجنوب 50 متراً وعرضه 11 متراً. له في طرفيه غرفتان مزدانتان بنقوش كثيرة ومواقف للأصنام. وكان بين هاتين الغرفتين في مقدم الرواق صف مؤلف من اثني عشر عموداً من حجر الغرانيت وأمامها درج كبير طوله خمسون متراً.
الجدار الداخلي من الرواق كان مزخرفاً بنقوش جميلة وكان في هذا الجدار الداخلي ثلاثة أبواب أكبرها أوسطها وعلوه نحو عشرة أمتار وعرضه سبعة وربع، وبني بجانب هذه الأبواب أدراج لولبية يُصعد منها إلى سقف الرواق والبهو الذي كان يُعبر إليه من هذه الأبواب.
* البهو المسدس أو الدار الأولى: هي دار مسدسة الشكل قطرها نحو 50 متراً ما عدا الأبنية المحيطة بها. وبكل زاوية منها غرفة وبين كل غرفة والأخرى معبد مربع الشكل، وقد كانت ساحة البهو مكشوفة للشمس. ويقال ان كاهنة الهيكل كانت ترتدي في غرف هذا البهو بملابسها الكهنوتية وتبتدئ بالاحتفالات بالرقص الديني في ساحة هذا البهو.
* البهو الكبير أو هيكل كل الآلهة: هو بناء مربع الشكل يحيط به اثنا عشر معبداً، أربعة منها بشكل نصف دائرة في الجهة الشمالية والجنوبية وما بقي فمستطيلة، وجميعها مفتوحة الواجهة وأمامها عمد من الغرانيت. وكل معبد منها يحتوي على صفين من الأصنام الواحد فوق الآخر وكان على جانبي كل صنم عمودان صغيران ويفصل المعابد عن بعضها حائط على واجهته صنمان علوي وسفلي.
ولم يبق من هذه الأعمدة الجميلة سوى بضع قواعد باقية في مراكزها، وعمود صحيح في الجهة الشمالية الغربية وكثير من القطع ملقاة على الأرض. وفي وسط هذا البهو مذبح المحرقات وإلى جانبيه حوضان للماء، وجدران الحوض من الحجر الأصم مقسمة بين مربعات مستطيلة وأصناف دائرة مزينة برسوم تمثل رؤوس البقر، وبينها أكاليل الزهور.
وكانت الجهة الغربية من هذا البهو مفتوحة ولا بناء فيها لئلا تستر مبانيها منظر هيكل جوبيتر العظيم الذي كان في ما يلي هذا البهو. وكان أمام الهيكل درج ذو ثلاث مساطب ويظهر أن «قسطنطين» الملك البيزنطي بدأ بهدم هيكل جوبيتر المذكور وأكمل خرابه «ثيودوسيوس» فوضعت أنقاضه وأتربته في وسط البهو الكبير بين الحوضين المذكورين آنفاً حتى تعالت فوق مذابح المحرقات وطمرت القسم الأسفل من الدرج العظيم.
وعلى هذا المرتفع بنى «ثيودوسيوس» كنيسة ضخمة لم تزل آثارها ماثلة في وسط البهو، ولما فتح العرب البلد حولوا أبنيتها العظيمة إلى قلعة ومحوا آثار الديانة المسيحية من داخلها وبنوا في سوق الكنيسة الأيمن حماماً وفي صحنها وسوقها اليسرى بيوتاً للسكن وفرشوا أرضها بالفسيفساء الملونة ووضعوا في فناء دورها الحياض المزخرفة.
* الهيكل الكبير أو هيكل جوبيتر: هو الهيكل الذي كانت ولا تزل شاخصة إلى عظمته وفخامته عيون جميع زائري بعلبك. وقد جعل الرومان أمامه البهو والأروقة ثم رفعوه على دكة عظيمة تزيد على ارتفاع الأبنية التي أمامه وأحاطوه بالأعمدة الهائلة وزينوه بالزخارف المجسمة، فتصاغرت أمامه تلك الأبنية مع أنها يقال أعجوبة الزمان ومن أبدع ما ولدته فكرة الإنسان.
طول هذا الهيكل من الشرق إلى الغرب 87.5 متر وعرضه 47.5 متر بما فيه أعمدته ما عدا السور الخارجي والدرج الذي كان أمامه، وكان يحيط به أربعة وخمسون عموداً. وكان وراء العشرة أعمدة الأمامية صف آخر من الأعمدة يُنتهى منه إلى فسحة كانت أمام باب الهيكل.
غير أنه ولسوء الحظ جنى البيزنطيون على هذا الهيكل فخربوا جدرانه وقوّضوا بنيانه ودكوا أسسه. ولم يُترك منه سوى أعمدة في جهته الجنوبية.
الهيكل الصغير أو هيكل باخوس: لم تُعلم الغاية التي حدت بالرومان لبنائه بجانب الهيكل الكبير في منخفض من الأرض وعلى طراز يشبه بهندسته ونقوشه ذاك الهيكل، دون أن يكون أمامه بهو ولا أروقة.
وهذا الهيكل من أجود الآثار حفظاً إذ يفوق في إتقانه وبديع نقوشه جميع الهياكل الباقية من عصر الرومان في العالم كله. وقد بني بغاية الإحكام في التحام الأحجار ببعضها البعض. وكان يحيط بالهيكل 50 عموداً منها 15 على الجانبين ومن جملتها أعمدة الزوايا. وبين العُمد وجدار الهيكل فسحة تبلغ الثلاثة أمتار عرضاً مسقوفة بألواح حجرية هائلة في الكبر ومغشاة بنقوش لا تقع العين على أجمل منها وأكثر إتقاناً.
قد تعجز العبارات عن وصف إتقان بناء قلعة بعلبك وجمال هياكلها التي بناها الرومان تعبيراً عن إخلاصهم لآلهتهم، ولكنها تبقى واحدة من أجمل المواقع الأثرية في العالم.
«حجر الحبلى»
يربض ««حجر الحبلى» على اطراف المدينة الغربية حيث تقع مقالع الهياكل الرومانية ويتسع احدها اتساعاً كبيراً الى الجنوب الغربي والاخر هو الاصغر يقع في الشمال الغربي خلف هالة المدينة الخضراء.
وحجر المقلع الاول قاس و«محبب» لونه ابيض وباهت يميل بفعل الازمان والعوامل الطبيعية الى السمرة الممزوجة بالحمرة لوجود اوكسيد الحديد فيه، ويمتاز هذا المقلع بالتلاحم الموحد الطويل فلا شقوق فيه سوى التي سببها الانسان لذا نلاحظ ان طريقة البناء بالحجر الطويل الواحد «MONOLITHISME» من اعمدة وغيرها بقيت في البلاد الفينيقية مدة طويلة ونشاهدها في سرعين ونيحا وقصرنبا.
وفي مدخل هذا المقلع يربض «حجر الحبلى» او القبلة، وقد اقتطع من جهات ثلاث ولم تزل قطعة واحدة من الجهة السفلى وتلقي في نفس الرائي الدهشة والرعب، ويبلغ طوله 21.50 متر وعرضه 4.80 متر وعلوه 4.20 متر ويقدر حجمه بـ 422 متر مكعباً ويقدر وزن «حجر الحبلى» بالف طن تقريباً ولذا اعتبر انه اكبر حجر منحوت في العالم ويستدل من اتجاهه انه قد اعد ليلحق بإخوته الثلاثة في هيكل جوبيتر بنفس الطريقة وعلى يد القوة عينها التي نقلتها.
أما المقلع الثاني فيقع إلى شمال الهياكل حيث ترتفع تلة تلوى اعلاها وتجعد سفحها وتعرف باسم الكيال وحجر هذا المقلع اشد صلابة واكثر نظافة وأوفر نعومة من الاول ولم تؤخذ منه سوى مواد الزخرفة والزينة كتيجان الاعمدة والارائك «ENTABLEMENTS » والافاريز.
آثار باقية (تصوير جوزف نخلة)
الأعمدة ضاربة في التاريخ